قالت ألفا: «في أي مكان.» «قولي شكرا.» هكذا قال ابن عم السيدة جانيت بينما استدارت ألفا وهي تنشف يديها في مئزرها، في استغراب، سرعان ما زال عنها. توقفت، وظهرها مستند إلى طاولة المطبخ، حينما جذبها ابن عم السيدة جانيت إليه برفق، كما يحدث في أي لعبة جماعية مألوفة، وأمضى بعض الوقت يلثم فمها.
قال: «لقد طلبت مني أن أذهب إليهم في الجزيرة في إحدى عطلات الأسبوع في شهر أغسطس.»
استدعاه نداء من الفناء، فخرج بالرشاقة، والانسلال المضحك إلى حد ما، اللذين يميزان بعض الأشخاص صغيري البنية. وقفت ألفا لا تحرك ساكنا وظهرها مستند إلى طاولة المطبخ.
أراحتها لمسة هذا الشخص الغريب. كان جسدها ممتنا ومتلهفا، فشعرت بسعادة وثقة لم تعرفهما من قبل في هذا البيت. وهكذا، كانت هناك أمور لم تكن قد أخذتها في الحسبان، عن نفسها، وعن أساليب العيش معهم التي لم تكن مبهرة إلى الحد الذي حسبته. إنها لا تضيق من التفكير في الجزيرة الآن، في الصخور العارية المغمورة بأشعة الشمس وفي أشجار الصنوبر الصغيرة المعتمة. صارت تراها بعين أخرى الآن، بل لعلها صارت ترغب في أن تذهب إليها. لكن الأمور تأتي دائما مجتمعة، ثمة أمر لم تكن قد تبينته بعد؛ نقطة حساسة، نوع جديد وغامض من الإذلال والمهانة.
رحلة إلى الساحل
«بلاك هورس»، بقعة موجودة على الخريطة، لكن لا شيء في هذا المكان سوى متجر وثلاثة بيوت ومقبرة قديمة وسقيفة إسطبل يخص كنيسة احترقت عن آخرها. المكان حار في الصيف، يخلو من أي ظل على الطريق وأي جدول بالقرب منه. البيوت والمتجر مبنية بآجر أحمر، تشوبه صفرة باهتة، ومزينة عشوائيا بطوب رمادي أو أبيض على المداخن وحول النوافذ. خلفها تمتلئ الحقول بنباتات الصقلاب والقضبان الذهبية والقصوان. والأشخاص الذين يمرون على المكان، في طريقهم إلى بحيرات موسكوكا والأجمة الشمالية، يمكنهم أن يلاحظوا هنا المناظر الطبيعية الوارفة تضيق وتتسع، والقباب الصخرية البالية تظهر في الحقول المتآكلة، وأحراج الدردار والقيقب الكثيفة المتناغمة وهي تنفتح على أحراش أكثر كثافة وأقل رحابة من أشجار البتولا والحور، والراتنج والصنوبر، في حرارة ما بعد الظهيرة تستحيل الأشجار المدببة الموجودة عند نهاية الطريق شفافة، زرقاء اللون، منسحبة في الأفق مثل صحبة من الأشباح.
كانت ماي مستلقية في غرفة كبيرة في خلفية المتجر مليئة بالصناديق. كانت تلك الغرفة مكان نومها في الصيف، حينما تشتد الحرارة في الطابق العلوي. وكانت هيزل تنام في الغرفة الأمامية على الأريكة وتشغل المذياع طوال نصف الليل؛ أما جدتها فظلت تنام في الدور العلوي، في حجرة صغيرة ضيقة مزدحمة بقطع أثاث كبيرة وصور فوتوغرافية قديمة، وعبقة برائحة قماش مشمع حار ورائحة جوارب النساء العجائز الصوفية. لم تستطع ماي أن تميز أي وقت كان ذلك لأنها لم تستيقظ من قبل قط في وقت مبكر كهذا. فقد كانت تستيقظ في معظم الأصباح فتجد رقعة من الشمس الحارة على الأرض عند قدميها، وتسمع رجرجة شاحنات المزارعين التي تنقل الحليب وهي مارة على الطريق السريع، بينما جدتها تسرع الخطى جيئة وذهابا من المتجر إلى المطبخ، حيث تكون قد وضعت فوق الموقد براد القهوة ومقلاة فيها لحم الخنزير المقدد الثخين. وحينما كانت الجدة تمر على الأريكة القديمة التي تنام عليها ماي والتي كانت فيما مضى مخصصة للشرفة (ما تزال وسائدها تفوح بنذر يسير من رائحة العفن والصنوبر)، كانت تكبش قبضتها بحركة أوتوماتيكية جاذبة الملاءة، وهي تقول: «هيا استيقظي الآن، أفيقي، أتظنين أنك ستظلين نائمة حتى ميعاد العشاء؟ ثمة رجل يريد بنزينا.»
وإذا لم تستيقظ ماي وراحت تتشبث بالملاءة، وتتمتم في غضب، تأتي جدتها مرة أخرى حاملة قليلا من الماء البارد في مغرفة، تصبه فوق قدمي حفيدتها. فتنتفض ماي، وهي تدفع خصلات شعرها الطويل عن وجهها، الذي يكون عابسا عبوس الوسن لكنه ليس حانقا؛ كانت ترتضي سيطرة جدتها كما ترتضي الرياح المطيرة أو ألم المعدة، بيقين أساسي وقوي من أن مثل هذه الأشياء ستمر. كانت ترتدي كل ملابسها تحت لباس النوم، وذراعاها متحررتان أسفل هذا كله من كميهما، وكانت وهي في الحادية عشرة قد دخلت مرحلة احتشام جنوني؛ إذ كانت ترفض أن تأخذ حقن التطعيم في مؤخرتها وتصرخ ثائرة إذا دخلت هيزل أو جدتها الغرفة التي ترتدي فيها ملابسها؛ لأنها كانت تظن أنهما تفعلان ذلك بغرض التسلية والاستهزاء بخصوصيتها. كانت تخرج وتضع البنزين في السيارة ثم تعود في منتهى اليقظة جائعة؛ وتأكل في إفطارها أربع أو خمس شطائر من خبر «التوست» مع المربى، وزبدة الفول السوداني ولحم الخنزير المقدد.
لكنها حينما استيقظت هذا الصباح كان الصبح لا يزال يبدأ نشر ضوئه في الغرفة الخلفية، لم تكن تستطيع أن تتبين إلا الكتابة المطبوعة على الصناديق الكرتونية. قرأت «حساء طماطم هاينز» و«مشمش جولدن فالي». راحت تمارس طقسا خاصا اعتادته، بأن تقسم الحروف إلى ثلاثات؛ فإذا نتجت في نهاية ذلك مجموعات متساوية، كان هذا يعني أنها ستتمتع بحسن الحظ في ذلك اليوم. وبينما كانت تفعل ذلك، خالت أنها سمعت جلبة، وكأن شخصا ما يتحرك في الفناء، فاعترى جسدها اضطراب مريع حتى أخمص قدميها جعلها تثني أصابع قدميها وتمط ساقيها حتى لامست طرف الأريكة. كان الشعور الذي اجتاح جسدها كله كالشعور الذي يستولي على دماغها حين تكون على وشك العطس. نهضت بأبطأ ما يمكنها وسارت في حذر فوق الألواح الخشبية للغرفة الخلفية، التي شعرت بها تحت قدميها رملية رطبة، إلى المشمع الخشن الذي يغطي أرضية المطبخ. كانت ترتدي لباس نوم قطنيا قديما يخص هيزل، يموج من خلفها في خفة وانسيابية.
كان المطبخ خاليا، والساعة تتكتك بانتظام فوق الرف الذي يعلو الحوض. إحدى الحنفيات كانت تقطر باستمرار، وأسفلها قماشة مسح الصحون مطوية في شكل لفافة صغيرة. كانت واجهة الساعة تكاد تكون مخفية وراء حبة طماطم صفراء، لم تنضج بعد، وعلبة بودرة كانت جدتها تضع منها على طقم أسنانها. كانت الساعة السادسة إلا الثلث. تحركت نحو الباب السلكي، وبينما هي مارة بصندوق الخبز امتدت إحدى يديها بحركة عفوية داخله وخرجت بكعكتين من كعك القرفة راحت تأكلهما دون أن تنظر إليهما، كانتا جافتين بعض الشيء.
نامعلوم صفحہ