1
ومازالت الكوفة تعمر حتى اتخذها الإمام علي مقرا له بعد واقعة الجمل سنة 26ه فازدادت عمارتها بما تقاطر إليها من الناس بعد أن صارت عاصمة الخلافة وتكاثرت فيها الأبينة وعمرت الأسواق وأنشئت حولها الحدائق والبساتين مما يلي بحيرتها.
الفصل الثالث
غادة الكوفة
وكان في ضاحية الكوفة على شاطئ البحيرة حديقة من نخيل حولها سور من جذوع النخل يحيط بالحديقة إلا من جهة البحيرة. وفي وسط الحديقة بيت مبني من اللبن يدل شكله على أن سكانه من أهل اليسار وقد يخيل لك إذا دخلت الحديقة أنه مسكن بعض الأمراء ذوي الخدم والحشم لما ترى بين نخيله من آثار المعالف والأوتاد والسلاسل والقيود. وترى جذوع بعض النخيل قد تأكلت من شد الأفراس إليها على توالي الأيام أو من تعهد الأفراس تقشيرها بأسنانها وهي مشدودة إليها .
وكان الوقت ليلا في أوائل السنة الأربعين للهجرة في زمن الخريف
1
وقد نضج الثمر على نخله وليس من يقطفه فتساقط بعضه على الأرض وليس من يلتقطه. وكان القمر بدرا وقد أطل من وراء الآكام فأرسل أظلال النخيل مستطيلة متقاطعة. والجو هادئ والسكوت سائد لبعد المكان عن المدينة وضوضائها فلا تسمع غير نقيق الضفادع على شاطئ تلك البحيرة يتخلله صرير الصراصير وقرقرة القر. وربما هب النسيم فأسمعك حفيف سعف النخل هنيهة ثم انقطع. ولقد تعجب لوحشة ذلك المكان مع ماتراه فيه من آثار الأنس ودلائل الأبهة.
ولو دخلت المنزل لرأيته عبارة عن دار وثلاث غرف مستطرقة بعضها إلى بعض مفروشة أرضها بحصر من سعف النخل فوقها جلود الماعز إلا غرفة في أرضها طنقسة جميلة عليها وسائد من الخز. وفي بعض جوانب الغرفة مصباح ضعيف النور. وعلى إحدى تلك الوسائد فتاة في مقتبل العمر أشرق وجهها بماء الشباب. وقد حلت شعرها الأسود فأرسلته على كتفيها فحجب بعض جبينها وغطى عذاريها فحجب قرطيها وسالفيها ولكنه زاد عينيها كحلا وإشراقا. ترى تلك العينين الدعجاوين البراقتين قد غشيهما الدمع وأخذ ينحدر على وجنتين محمرتين بينهما أنف دقيق مستقيم تحته فم صغير. فإذا زاد انسكاب الدمع استلقته بأطراف جدائلها أو بأحد كميها. وكانت لابسة جلبابا أسود حدادا على فقيديها. ولم يزدها ذلك الحداد إلا جمالا وفتنة. وكأن تلك الغادة استأنست بوحدتها فأطلقت لنفسها عنان البكاء حيث لا رقيب ولا عدو فأخذت تلطم خديها وتندب فقيدين عزيزين قتلا في يوم واحد.
تلك هي قطام بنت شحنة بن عدي
نامعلوم صفحہ