مقدمة
الذاكرة الشعبية الجماعية الفولكلورية
الأسطورة في الأدب الشعبي
بلقيس ملكة سبأ العربية
حسن ونعيمة وشفيقة وزليخة لدى كل الشعوب
مسرح مندثر للنساء فقط
موال العشق الخصيب الأخضر
أمراض الحب والعشق
البالاد ... وأمراض العشق
التمثيل بالشخصيات التاريخية والأسطورية
ممارسات وأغاني الزواج والإنجاب
التابو وظواهر العرس العربي المختلط
نصوص أغاني الزواج والإنجاب
مقدمة
الذاكرة الشعبية الجماعية الفولكلورية
الأسطورة في الأدب الشعبي
بلقيس ملكة سبأ العربية
حسن ونعيمة وشفيقة وزليخة لدى كل الشعوب
مسرح مندثر للنساء فقط
موال العشق الخصيب الأخضر
أمراض الحب والعشق
البالاد ... وأمراض العشق
التمثيل بالشخصيات التاريخية والأسطورية
ممارسات وأغاني الزواج والإنجاب
التابو وظواهر العرس العربي المختلط
نصوص أغاني الزواج والإنجاب
الرجل والمرأة في التراث الشعبي
الرجل والمرأة في التراث الشعبي
تأليف
شوقي عبد الحكيم
مقدمة
هناك أكثر من تناول للنظر إلى الفولكلور أو تراثنا الشعبي العربي بما يشمله من مأثورات قد تكون أشعارا شعبية ... مواويل حمراء أو خضراء - دنيوية - أو أشعارا غنائية نمطية ذات ملمح جمعي تشارك فيها الجوقة والمغنيون الانفراديون، وهو الملمح الغالب لدى الشعوب وكيانات الجزيرة العربية شمالا وجنوبا، والمعروف بالشعر النبطي، بالإضافة للحكاية الشعبية وأنماطها، وتركة السير والملاحم التي تشكل وجدانا متوحدا لأمتنا من المحيط إلى الخليج، والذي قد يصل طول بعضها إلى عشرات الآلاف من الصفحات للهلالية، والزير سالم، والملوك التباعنة، وحمزة العرب، والأميرة ذات الهمة ... وهكذا.
وطبعا لا يقتصر أمر المأثورات الشعبية العربية على الأدبيات والفنون القولية والتعبيرية من رقص وموسيقى ومسرح مرتجل وإنشاد شعائري، بل هو يشمل الصناعات والحرف التقليدية من الإبرة حتى الصاروخ، ما بين معمار، وأزياء، وصدفيات، ومعادن، وسجاد يدوي، وزجاج، وسيراميك، وفخاريات ... إلخ.
وما يهمنا في تركة الأسلاف المتوارثة هذه، والتي لا تغفل أي ممارسة جمعية يومية حتى المطبخ وتاريخه من النيئ إلى المطبوخ، وما يهمنا هو الممارسات والسلوك اليومي تحت تأثير العادة والتوارث؛ أي: ما زال يواصل توالده الذاتي من أنماط وقنوات تراثنا العربي المتواتر منذ عصور ما قبل العلم والعقل، وأخطاره الجسيمة على بلداننا وكياناتنا العربية ... والذين يتعامون عن مدى الأخطار التي قد تقودنا، ويعرضنا لها تراث ما قبل العالم هذا، وهو التراث الذي لم تنكسر شوكته، بل لم يصبه ويعتره التغيير والتفهم الواقعي - كبناء من المتناقضات بالقدر الذي يسمح بحل أحجبته وطلاسمه، وبالقدر - حتى - المتوائم أو التقارب مع تغيير علاقات الإنتاج الذي اعترى عالمنا، ولعل أبسطها التحول البترولي الرأسمالي الذي لا يستقيم أبدا مع محاولات طبع الماضي على الحاضر، خلال سريان عمليات الخداع للحفاظ على ما يسمونه على أحسن الفروض دعاة الجبرية التاريخية والتراثية بروح التاريخ، والذي ليس في حقيقته سوى روح هؤلاء السادة أنفسهم، وإذا ما كانت الإنسانية التي نحن جزء من حركتها العامة خاضعة تماما لقانون تطورها العقلي، ولهذا حققت انتقالاتها من الفكر اللاهوتي - الطوطمي - إلى الفكر الميتافيزيقي الفلسفي، ثم من الفكر الميتافيزيقي إلى الفكر الوضعي؛ طمعا في تحقيق أقصى منفعة ممكنة.
وعلى هذا يصبح من المفيد إعادة تفهم واقعنا، والوقوف على حقيقة متناقضاتنا بنفس النهج الذي حققته المجتمعات الصناعية، وما فوق الصناعية، دون الإغراق في صدى الماضي والحاضر وسحره، وجاذبيته الخارقة ممثلا في الموروثات والممارسات والمقولات الفولكلورية والأساطير، أو بمعنى تأصيل الحاضر بخلفية الماضي حيث مولد الحضارات المصرية الفرعونية والمصرية العربية ... ولقد كانت العلاقة الحيائية الأولى من الرجل والمرأة هي صناعة الحياة نفسها وتطورها.
ومن هنا كانت نظرة التراث الشعبي إلى الحب والعشق والزواج والإنجاب ...
نظرة بسيطة وصادقة ومعبرة، وبعيدة عن التعقيدات الشكلية والمصطنعة ...
الذاكرة الشعبية الجماعية الفولكلورية
لا خلاف على أن الذاكرة الشعبية الجماعية هي ما حفظت لنا هذا التراث المتواتر منذ طفولة البشرية الأولى، وهو الفولكلور. وللذاكرة الشعبية - تحت تأثير العادة والتوارث - حضورها وإعجازها لمن خبر التعامل معها؛ ذلك أنها مخزون متواتر الحلقات، تحفظ أدق دقائق شعائر وممارسات الولادة والموت الأولى إلى أيامنا، بنفس درجة حفظها لما يصاحب التنفس والتثاؤب، وكل ما يتصل ويصاحب الانتقال من النيئ إلى المطبوخ بالنسبة لمطبخ البخار المصري، كذلك فهي ذاتها الذاكرة الشعبية أو الشفهية التي أسهمت في الكشف عن الكثير من تراث البشرية التاريخي أو الحفري الأركيولوجي، وما من مكتشف أثري - مثلا - لم يستهد ويستفد من مخزون الحكايات الشعبية، والحواديت وفابيولات الكنوز - المقابر - المدفونة، وعالم ما تحت الأرض، منذ د. فلاندوز بيتري الذي دأب على تأكيد أن هذه الخرافات التي كانت يجمعها ويستمع إليها من فلاحي الفيوم والدلتا قادته إلى اكتشاف كنوز من الآلاف المؤلفة من البرديات الأدبية والفولكلورية والتاريخية التي ينظر إليها اليوم بكل تقدير. والشيء نفسه أشار إليه ماريت، وماسبيرو، وكارتر مكتشف عصر توت عنخ أمون، وغيرهم من الرواد الأثريين الذين عملوا في حفائر ومكتشفات العالم العربي، خاصة بسوريا والعراق، أمثال: كلوديوس ريش، وسيد هنري لايارد، اللذين استفادا من ألف ليلة وليلة، والنصوص الشفهية لفلاحي العراق في مناطق أو مديريات الموصل، وجلجاميش، وتمرود، وبقية رحاب العراق.
فللذاكرة الشعبية الجماعية، أو الذاكرة الفولكلورية قدراتها وإعجازها الذي لمسته وأنا أواصل جمع شفاهيات منطقة الفيوم وبني سويف وبعض قرى المنيا والجيزة، جعلتني في النهاية أعتقد - إلى حد كبير - في الذاكرة الشعبية كعملية جدلية عقلية، تتكامل فيها عقول أجيال طولا وعرضا، أو زمانا ومكانا، وتكاد أن لا تفقد شيئا أو تفتقده من مخزونها الجمعي.
ومن هذا المدخل يمكن القول بأن لا شيء مفتقد، بل إن المفتقد - تاريخيا أو أركيولوجيا - يمكن استجلاؤه والتحقق منه عن طريق الذاكرة الشعبية، عن طريق دأب البحث في جمع المواد الفولكلورية، أو متنوعات وعينات وعبارات الأيتم، أو النمط الواحد أو العنصر، مهما كان موضوع البحث جانبا أو ضئيلا.
وإذا كان من الصعب علينا اليوم في أيامنا هذه تقبل حقيقة أن بلداننا العربية مصابة بأعلى معدلات للأمية على رقعة العالم أجمع، فلنا أن نتصور ما كانته أيام الجاهلية الأولى والثانية - 3 آلاف عام ق.م - ومن هنا كان الانتشار الشديد - لعادة أو شعيرة - للحفظ والتحفيظ، والاعتماد على الذاكرة، الذي لم يتوقف - تواتره - إلى اليوم في مناهجنا الكتاتيبية المتوارثة. ولا يقتصر الأمر على حفظ وتحفيظ النصوص الإنيزمية أو الدينية - رغم انتشار الترانزيستور - بل الشعر، وبقية الشعائر من قديم وحديث، فولكلوري وتقليدي، فحتى الأحاجي والفوازير والحذور لها مكانها ومخزونها داخل الذاكرة الشعبية، سواء في شفاهياتنا العربية أو السامية، وبالطبع عند مختلف الشعوب.
وتحفظ الذاكرة الشعبية مقوماتها الأولى المنحدرة من طفولتها الطوطمية والإنيزمية القديمة مثل: حزن زهر البنفسج، زهو الإله الممزق أدونيس الذي اغتالته حيتان البراري، مثل نهيق الحمار
1 - ستخ أوطيفون - الذي بسببه أصبح إلها شريرا متجبرا، ومثل رأس الحية الذي هو مكمن كل الخطايا إلى اليوم، وهو المفهوم المنحدر من أساطير الخلق الأولى - للعالم والإنسان - والمصاحب للطرد من الفردوس المفقود، والموحد بين الحية والمرأة والشيطان، ومثل ما يدور ويتواتر إلى اليوم، حول عيون القطط والخفافيش، وبطء السلحفاة البرية، وصدفة الجعران في الطبيعة، التي من خصائصها أن تبيض فيها جعارين جديدة، ومنها تنبت جعارين أو حياة جديدة، أي إن من الموت أو الجعران تنبت حياة،
2
ولعله أقدم تفسير عن الموت ومعاودة الحياة أو القيامة؛ كما تشير د. ماجريت موري.
وقد يكون هناك ثمة علاقة بين - ألوان - الطيور والحيوانات المشئومة، وبين الألوان الحزينة المشئومة بدورها، مثل الغراب - الأسود - النوحي، والسواد أو الحزن والليالي السوداء، وبالطبع تشمل هذه العلاقة بين ألواننا عن الفرح والآمال،
3
وهو الأبيض، وعلاقته أيضا بالحمامة النوحية، وبمعنى أصح الجلجاميشية، بعد أن أطلقها نوع أو كبير الآلهة البابلية أو نونبشتم حين عادت إليه في المساء، وإذا ورقة زيتون خضراء في فمها.
ويبرز - طوطم - الحمامة ودلالتها عند الساميين بشكل ملفت جدا، فتسمية راحيل أو راشيل - أم النبي يوسف - هو كاهنة الحمام، ومنه تواتر إلى تسمية إسرائيل.
ومن اسم الحمام تسمت الملكات الربات الآشوريات: سميراميس، وسميرام، وسميرنا الليبية.
4
وقد لا ننسى الحمام في تراثنا العربي، وتحولات أبطال الخوارق والملاحم إلى حمام.
كما قد لا ننس حمامة الأيك، كطوطم وشعار إسلامي شامل ومغرق في القدم، وهو ما سنتعرض له في حينه.
وكما يقول الأستاذ تومبسون، فإن الأمر بالنسبة لذاكرة شعوبنا - السامية الشرقية - الفولكلورية، يمكن أن يطلعنا على الكثير من فيض النتائج الدقيقة، خاصة وأن رواة التراث وحفظته من حكواتية، ورواة سير ومداحين، وشعراء جوالين - تروبادوز - ما يزالون إلى اليوم يملأون حياتنا، وتزدحم بهم أسواقنا ومواليدنا، وتعج ذاكرتهم بالكثير، الذي يخالط التاريخ فيه الأساطير، والعكس صحيح.
وعلى سبيل المثال، فلنا أن نتصور أن عمر الانتقال إلى مرحلة الإعلام الإليكتروني - الراديو - لم يتعد حلقة واحدة أو نصف قرن، وقبلها كانت الغلبة للنص الشفاهي، وذيوعه عن طريق أدواته، وهم الحكواتية ورواة السير والملاحم، وفنانو الأفصال أو الفصول المضحكة، أو ما أطلق عليهم لويس عوض بمسرح الفلاحين.
5
ومن هنا ففي الإمكان التحقق من الكثير من تراثنا الحفري الفولكلوري، مثل افتراض العثور على مجموعات الحكايات المصرية التي ترجمت من البرديات التي عثر عليها في مصر د. فلاندرزبيتري، وغيره من الحفريين، وأعيد نشرها في الفرنسية عدة مرات، منذ أن نشرها للمرة الأولى ماسبيرو تحت اسم «حكايات شعبية فرعونية»، وظهر الكثير منها في الإنكليزية باسم «تسجيلات من الماضي»، كما نشر إيرمان مجلدين منها، كذلك أسهم في ترجمتها ودراستها علماء المصريات: جودوين، شاباس، أبيروس.
ولعل أكثر المغالين في قيمة هذه الحكايات المصرية هو إيرمان الذي أرجعها للأسرات المصرية الأولى،
6
بل هو أرجع بعضها إلى ما قبل التاريخ، رغم أن بيتري يأخذ عليه أن ترجمته لهذه الحكايات جاءت أدبية وصفية، مستخدما في إعادة صياغتها «الألف باء» الحديثة، سواء في الهيروغليفية أو الألمانية الحديثة، ومن هنا فقد تجنت ترجمة إيرمان المتحررة على الكثير من قيمتها الفولكلورية.
وسجل بيتري في الجزءين اللذين نشرهما عن حكاياتنا المصرية الفرعونية مجموعة ملاحظات بسيطة، منها إفاضة الحكايات المصرية، فالأعاجيب أو الملاعيب التي تذكرنا بملاعيب شيحا، وعلي الزيبق، وبعض سير آباء الكنيسة القبطية التي يعج بها تاريخها - الينكسار - والتي ما تزال تتبدى إلى اليوم أكثر وضوحا في حكايات الشطار، وهو ما أسماه بالينوفسكي بالفنتازيا المصرية.
كما سجل بيتري مدى خوف المصري القديم الدائم من أخطار البلاد الأجنبية خاصة الآسيويين، وأقربهم العرب والعبريون الساميون بالطبع من جانب، والليبيون والكوشيون النوبيون من الجانب الآخر.
كذلك تنبه بيتري إلى غياب وتدهور ملامح الشخصية المصرية في العصر المتأخر، بدءا من الدولة الوسطى؛ ولهذا يقول: «لهؤلاء الذين يتصورون أن هناك تشابها أو تماثلا يطبع كل مصر على أحقابها المختلفة، وهو ما لا تؤكده وتقطع به الحكايات المصرية، ذلك أن التغير من فترة أو عصر زمني لآخر يبدو جليا فيها.»
في حكايات السحرة والخوارق مثلا بدأت تكثر جدا، بدءا من الأسرة الثانية عشرة، وكذلك الإكثار من المعتقدات الغيبية والقدرية مثل: قصة الأمير القدري،
7
التي ترجع إلى الأسرة الثامنة عشرة، والتي يمكن القول بأنها ما تزال تعيش بحذافيرها على الشفاة محفوظة بكاملها في الذاكرة الجمعية الشعبية أو الفولكلورية.
الأسطورة في الأدب الشعبي
حتى أيامنا هذه وبعد المدى الكبير الذي قطعته العلوم الإنسانية والإثنية، ما يزال الخلط اللاعلمي ساريا بالنسبة للتعريفات البسيطة حتى لدى المثقفين والمتخصصين، حول التعريفات المحددة للملحمة والأسطورة، والقصص الشعرية الغنائية المعروفة بالبالادا.
وإذا ما قصرنا موضوعنا هنا عن الأسطورة، وكيف أنها قصة أو فابيولا أو مأثور، يحمل - بالطبع والضرورة - سمات العصور الأولى والقديمة، مفسرة معتقدات الناس بإزاء القوى العليا والسماوية: آلهتهم وأنصاف آلهتهم، أبطالهم وخوارقهم، وكذا معتقداتهم الدينية.
وكما يذكر سير ج. ل. جوم، فإن غرض الأسطورة هو التفسير، بالإضافة إلى الغايات التعليمية والاعتقادية، فالأسطورة تفسير لقضايا أو أصل وجوهر العلم، في عصور ما قبل العلم.
من ذلك أن تخبرنا الأساطير كيفية خلق الكون، والإنسان والحيوان، وكافة المخلوقات والمعالم الأرضية، من أنهار وجبال ووهاد، كذلك فإن العلاقة وثيقة بين الأساطير والخرافات والمأثورات الطوطمية من حيوانية ونباتية، بل وحشرات وزواحف من عناكب وديدان، أخصها الدودة - دودة العلق - التي صيغ منها الإنسان القديم (انظر أساطير خلق العالم والإنسان).
ومن ذلك أن تفسر لنا الأساطير السبب في القوى الخارقة للحيوانات البهيمية، من حيتان وأفراس نهر وعقبان وأفيال، وهو ما يغرق قنوات وروافد تراثنا العربي، كأن تفسر لنا السبب في أن الخفاش أعمى بإزاء ضوء النهار، لا يتواجد ويطير محلقا إلا ليلا،
1
كما تفسر زئير الرياح، والفيضانات، والرعود والبروق والزلازل. كذلك تفسر التلون الثلاثي لعيون القطط، وحافر الحصان وعلاقته بالماء وموارده، وكذا لخمسة وخميسة، والعين القاتلة، وكذا النفس الخالق.
كذا تفسر لنا الأساطير سكنى الأرباب والآلهة في - عليون - الأعالي عند قمم الجبال الشاهقة، وأشجار السنط والعملاقة «عندما تسمع صوت أقدام في رءوس أشجار البكاء، عندئذ احترس؛ لأنه إذ ذاك يخرج الرب أمامك.»
فليست كل القصص القديمة أساطير، فمن الضروري أن تتوافر للأسطورة عناصرها المتمثلة في عوالم الأرباب والآلهة، وكذا الخلفيات الدينية والسماوية.
فالأسطورة - كما لاحظ دارسوها المبكرون - ما هي سوى «تأليه للوقائع البشرية»، أما دارسو الأساطير المقارنة مثل فريزد فقد توصلوا إلى تفسيرات للظواهر الكونية، وكذا للتقويمات، من شمسية - السنة الميلادية - لقمرية - السنة الهجرية - أو القمرية، التي تنقص عن سالفتها - أو نظيرتها الشمسية، بأحد عشر يوما - نسيئة - مثلها مثل الأساطير الفرعونية المتصلة بأخلق، للآلهة أنفسهم، وهم الذين خلقت الآلهة، خمس منهم خارج الزمن (للاستزادة انظر: الأساطير المصرية، وأساطير الخلق الأولى - أو أوزيريس إله النماء المصري الممزق - ونوت - إله فرعونية).
ومعظم الفولكلوريين دائمو التشكك من مدى التداخلات والمزاوجات بين عناصر كل من الأسطورة والحكاية الشعبية، خاصة تلك الحكايات الطقوسية للمقدسين والمباركين، وأولياء الله، وما أكثرهم في تراثنا، بدءا: بالحكيم لقمان، والأقطاب الأربعة، ومنهم الخضر أبو العباس.
وبعض الحكايات الشعبية ما تزال تحمل سماتها الرئيسة، كبقايا - أو أشلاء - أساطير، وهو ما سبق أن لاحظه الأخوان جريم.
فالكثير من الأساطير اجتذبت وانتفعت بموتيفات وتضمينات الحكايات الشعبية البسيطة أو الساذجة، وبذا رفعتها إلى عوالمها الفوقية، فعندما أصبح الشطار والمكارون بشريين بدلا من كونهم في السابق مقدسين، وعندما أصبح البطل إنسانا بشريا بدلا من كونه إلها؛ أصبحت الأسطورة حكاية وأحدوثة وخارقة أكثر بساطة.
بلقيس ملكة سبأ العربية
تعد بلقيس من أوفر الملوك القحطانيين اليمنيين - أو العرب الجنوبيين - حظا بالنسبة لما تواتر حولها وتناثر من أساطير وحكايات، ما تزال تواصل سرياتها وتوالدها المتوالي في مأثورات شعوب الشرق الأدنى، بل والعالم أجمع.
خاصة ما يتصل بمعاصرتها واتصالها بالنبي الملك سليمان - 1015ق.م - حين انتقل وطار سليمان إليها بعد أن أمر الريح، فأقلت عرشه وكراسي وزرائه، وأجلس الإنس عن يمينه وشماله، وأجلس الجن من ورائهم، وأظلته الطير والخيل واقفة، والطباخون في التوابيت جلوس على أعمالهم، وأمر سليمان الريح بالمسير متجها إلى - ممالك - تدمر،
1
لكنه توقف في مكة؛ إذ إن ابن قيدار بن إسماعيل كان قد استجار به فنزل سليمان وأقره على مكة، وعاد فسار بعرضه حتى نزل بنجران على القلمس بن عمرو، وهو الملقب بأفعى نجران، وكان من بني عبد شمس بن وائل بن حمير بن سبأ، وهو عامل بلقيس على نجران والبحرين.
2
ويبدو أن الأفعى كانت الشعار أو الحيوان المقدس لذلك القلمس - الذي يقال إنه كان أحكم العرب.
كما كان النسر هو الطائر المقدس - الطوطم - لدى العرب البائدة، خاصة قبائل عاد.
وكذلك الهدهد، الذي تسمى به الملوك اليمنيون، ومنهم الهدهاد بن شرحبيل، والد بلقيس، وتسمت هي أيضا به، وما تزال تواتر فابيولات الهدهد وبلقيس؛ منها أن هدهدها لقي هدهد سليمان حين افتقد سليمان هدهده قبل زيارته لبلقيس، فتساءل الملك النبي الكاهن سليمان: ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين؟ لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتين بسلطان بلقيس.
فكان أن حدث أكثر من لقاء - طوطمي - بين الهدهدين، أقرب إلى التلصص، فسأل هدهد بلقيس هدهد سليمان - أو طموطمه - حين لاقاه: أخبرني ما هذا الذي أرى؟! ما رأيت ملكا أعجب من هذا الراكب الريح. وعاد هدهد سليمان فسأل نظيره اليمني حين أخبره من أرض سبأ عن ملكهم؟ فأجابه: ملكتنا امرأة لم يسر الناس مثلها في حسنها وفضلها وكثرة جنودها، والخير الذي أعطته في بلدها، وهي من ولد جمير، وأمها من الجن، وقومها يسجدون للشمس.
وبعد أن انتهى هدهد سليمان من تجسسه، عاد إلى سليمان بالخبر المعروف و
أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين .
وينسب للشاعر الجاهلي الأسطوري الكبير أمية بن أبي الصلت أن الهدهد كان سبب انقضاء ملك بلقيس في أشعاره الأسطورية أو أساطيره الشعرية، التي تتناول مواضيع خلق العالم، والجنة والنار، وخطيئة آدم، والطوفان، وخرافات ذي القرنين، وبلقيس (انظر: يعرب أبو العرب أمية بن أبي الصلت).
من قبله بلقيس كانت عمتي
حتى تقضى ملكها بالهدهد
ولا تنتهي مأثورات الهدهد الخرافية، ومنها حين امتحنته بلقيس، فأرسلت إليه بمائة وصيف ومائة وصيفة، ولدوا في شهر واحد في ليلة واحدة، ليفرق بينهم، محملين - طبعا - بالجواهر والخير والهدايا.
ثم كيف جاراها سليمان في أحبولاته ومحاذيره، فبعث بعفريته الذي أتى له بعرشها، وكان ذهبا صامتا، مرصعا بالدر والياقوت، عشرين في عشرين ذراعا، وتاجها كالعنقل، معلق إلى رهو المجلس بالسلاسل، ثم حين التقيا وراحت بلقيس تقول له الحذور أو الألغاز ليحلها، مثلما سألته: «أخبرني عن ماء لا هو في الأرض ولا هو في السماء.» فأجابها سليمان بأن ركب فرسه وأجراها طويلا، وحين عرقت شرب من عرقها وارتوى. وهو شائع جدا في التراث الشفاهي العربي، كما أن التراث الشفاهي ما يزال يحفظ لسليمان أنه أول من جاء بالمادة أو العجينة التي تزيل شعر النساء، وذلك عندما رأى أن جسد ملكة سبأ اليمنية بلقيس أحسن جسد، إلا أنه مغطى بالشعر، فلقد
3
اعتقد سليمان بأن بلقيس ما هي إلا العفريتة ليليت - انظر الليليت - وحواء الأولى، المنحدرة إلى البابليين من سابقيهم السومريين - اللاساميين - ووردت في التراث السومري للمرة الأولى في أحد نصوص ملحمة جلجاميش «جلجاميش وانكيدو والشجرة الصفراء»، والتي كان سكناها الخرائب والأماكن المهجورة، سواء في نصوصها الأم عند السومريين والبابليين، أو ذلك التراث المتواتر المعاش اليوم على رقعة بلداننا العربية.
وورد في العهد القديم أن جن سليمان هم الذين شيدوا مدينة «تامار» أو «تدمر»؛ أي التمر أو مدينة التمر، وهذه الحكايات وغيرها كانت شائعة بكثرة شديدة بين العرب الجاهليين حول أحداث وخرافات ومأثورات وأساطير سليمان وبلقيس ملكة سبأ.
ويرى البعض أن اسم بلقيس مشتق من تسمية إله القمر عند السبأيين الذي لقب في اليمن ب «المقة»، ومنه جاء اسم الملكة بلقيس، كما يذكر أن من اسمه تواترت تسمية مكة المكرمة.
ومما يؤكد هذا الرأي أن نقوش المسند حفظت أسماء مجموعة من المعابد خصصت لعبادة الآلهة القمرية «المقة»، من أشهرها هذا المعبد الذي زارته إحدى البعثات الحفرية الأمريكية، وهي بعثة «وندل فيلبس» وما تزال بقايا هذا المعبد قائمة، ويعرف لدى اليمنيين باسم حرم بلقيس أو «محرم بلقيس».
كما أن في مدينة صرواح عاصمة ممالك سبأ معبد آخر لآلهة القمر «المقة» يعد أكثر قدما، ذكر المؤرخ «هاليفي» أن به بقايا جدران شاهقة، عليها كتابات بالخط المسند، ويطلق على ما تبقى من خرائبه «عرش بلقيس».
4
وتروي بعض هذه الخرافات أنه بعد تزوج سليمان بلقيس، وأنجب منها «رحبعم» الذي خلفه بعده على ملك اليمن، ضاع من سليمان خاتم ملكه، أو أن الأقدار ابتلته فضاع ملكه، وكيف أن ساحرا كتب سحرا وجعله تحت ملك سليمان، وسحر به أصف بن برخيا - كاتبه الذي ما تزال الذاكرة الشعبية تحفظ اسمه - وكيف أن الشيطان تمثل في صورة سليمان، ودخل على نسائه، وكن يبلغن ثلثمائة زوجة، وسبعمائة جارية ومحظية. وعندما سأل الشيطان نساء سليمان عن أسراره الجنسية قلن له: «إنه يأتينا في المحيض،
5
وإذا طهرنا لم يقربنا.» فقال الشيطان: «أنكرت سليمان لما رأيت من عدله، وأظهره لما رأيت من جوره.» أي إن سليمان توحد به؛ أي الشيطان.
ورواج خرافات الجن والشياطين في ثنايا تاريخ هذه الحضارة الحميرية، والتي تداخلت في نسب ملوكهم مثل بلقيس، وذي القرنين، والملك ناشر النعم، بالإضافة إلى أن قبائل بكاملها، أرجعت إلى الجن، مثل بني ملك وبني يربوع، ومن المرجح أن تكون فكرة الجن في منشأها فكرة دخيلة، جاءت بها هذه الحضارة الحميرية المبكرة خلال حروبها وفتوحاتها، واتصالاتها الأسيوية المبكرة فيما يجاورها من حضارات، خاصة الآرية في الهند وفارس (انظر: فرس إيرانيين آريين).
حسن ونعيمة وشفيقة وزليخة لدى كل الشعوب
القصص الغنائية الشعرية التي لا يخلو منها تراث شعب من الشعوب مثل: حسن ونعيمة، وشفيقة ومتولي، وعزيزة ويونس، ويوسف وزليخة، وقيس وليلى، وخيزران، وسارة وهاجر؛ لها حيزها المرموق بالنسبة لدارس المأثورات والآداب الشعبية على رقعة العالم أجمع، وتعرف بالبالادا.
البلادا تسمية أطلقت على هذا النوع من الأغاني الفلولكورية الملحمية التي كانت منشأها أغاني تؤدى بمصاحبة الموسيقى، والرقص - مثل البلاتا الإيطالية.
فهي قصة شعرية مثلها مثل «عنتر وعبلة»، وعالية وأبو زيد الهلالي ، وسارة وهاجر، وحسن ونعيمة ... إلخ.
فهي أغنية ملحمية بأكثر منها ملحمة أقرب إلى الابتهالات البكائية والجنائزية، مثلها مثل أغاني الشهنامات الفارسية الإيرانية، وقصائد السيد الفرنسية، وبلاد نبلونجز الألمانية الإسكندنافية، والبليانات السوفيتية، والأغاني القصصية التي سبقت اكتمال ملحمة «كاليفالا» الفنلندية، وكذا أغاني رولان وبيولف، ثم بالاد سفند دايرنج الدينماركية التي تقارب قصتنا الملحمية سارة وهاجر، وإن كان كلاهما يشيع فيهما الحسن النسائي الذي هو الملمح الأكثر أصالة للجسد الفولكلوري العالمي بأكمله، من حيث الاحتفاء بمأثورات مثلث العائلة الخالد، الزوج والزوجة والابن وصراع الضرتين وطقوس الزواج والميلاد، واضطهادات زوجة الأب، التي تدفع بالأم إلى الخروج من قبرها، لتنقذ طفلها القدري المضطهد من براثن زوجة أبيه.
ويرجع ظهور هذا الشكل الأدبي الفولكلوري في التراث العالمي بعامة، فيما بعد القرن الخامس عشر، ولعبت حركات الإصلاح الديني في الغرب دورا دافعا في تنشيطه، والاستفادة من رواته ومنشديه المحترفين مثل النسوة البدبات منشدات البلينا السوفيتية، برغم أن بعض الكنائس في العصور الوسطى حاولت تحريم إنشاده، واضطهاد رواته وحفظته ومنشديه.
ولقد احتفت المدرسة الأسطورية بريادة أندرولانج بإرجاع هذه القصص الشعائرية الغنائية إلى عصور موغلة في القدم.
ولا شك في أن بعض نماذج هذه القصص الشعرية الملحمية عمره من عمر الشعائر والممارسات الوثنية الطوطمية الموغلة في القدم، طالما أنه مرتبط بتقويمات ومناسبات دنيوية يراد لها الحفظ والانتشار، ولو من جانب المؤسسات الدينية التي عادة ما تتحرك في خدمة المسار السلطوي، ولو للعائلات المنسبة أو التي تضفي صفات وهالات القدسية والتقديس على أنسابها بما يحفظ لها استمرارها، وتواصلها السلطوي الطبقي.
ومن هنا تجيء - مثلا - سارة وهاجر التي تؤرخ للأصول للعائلة السامية برمتها؛ للأب السلف إبراهيم الخليل، وابنه إسماعيل أبي العرب، وزوجاته الثلاث: العربية، والعبرية، والسريانية.
وبذا أصبح الخليل إبراهيم بمثابة الأب السلف لهذه الأقوام - حتى - المتعاصرة، فالبلاد قصة شعرية فولكلورية تروي أحداث ملحمية يراد لها الحفظ والاتصال، عادة ما تكون على درجة عالية من الأهمية والخطورة، وعلى المستويات البنوية من سياسية وشعائرية واجتماعية وتقويمية تنتهي بكاملها عند هدف أخير هو حفظ البنية الطبقية دون أي اعتبار لما طرأ على مجتمع أو مجتمعات - هذه السير والبالاد الملحمية من تغيرات في علاقات إنتاجية، والشروط أو المتطلبات التي يعيش فيها الناس - وعن طريقها وعبرها - يتحدد وعيهم.
فثقل ومثل هذه النصوص خاصة تلك التي يكون موضوعها الشعائر والمنتجات الروحية؛ لا يدخل في اعتباره مطلقا أن تطور الأفكار والمعتقدات يجيء مسايرا للتطور التاريخي.
وعلى كلا المستويين الفكري العقائدي والواقعي الدنيوي المادي ذلك أن مثل هذه الخرافات الغيبية ما هي - في أحسن الافتراضات - سوى انسلاب للعالم الدنيوي أو الأرضي المفتقر - بالضرورة - إلى الوعي بنفسه، وإلى أن العالم يجب تغييره لا مجرد تفسيره من جديد، فالفكر الغيبي هو إسقاط وهمي للعالم الأرضي اتساقا مع ثقل مثل هذه الموروثات الروحية المدعمة بسلطة العادة والتوارث، وكذا التفسيرات المغلوطة لكلا التراث والتاريخ مجللة أو محماة بما أسماه أرثوتيلو - بالاهيزم، من روحانيات يضفيها الإنسان على كل شيء، وبخاصة طبقا الطبيعة الموحشة الغامضة من حوله.
وعلى هذا فالبالاد في أحسن حالاتها قصة «أنساب» أو عائلة أو قبيلة، مع الأخذ في الاعتبار أن العصب أو الجسد الفولكلوري العربي بعامة قبائلي.
بالإضافة طبقا إلى أنها - كما ذكرنا - قصة أو أغنية شعرية عادة ما كانت تؤدى بمصاحبة الموسيقى والرقص.
مسرح مندثر للنساء فقط
ظاهرة ملحوظة في تراثنا لم تلق الاهتمام الكافي، وهي ظاهرة المسارح الشعبية مجهولة المؤلف؛ أي: الكوميديا آرتي. ومنها ما يختص بالرجال والنساء التي اندثرت مثل «مسرح الفصول المضحكة النسائي».
وكان يعرف بمسرح النساء أو فصول حجرات النوم النسائي، الذي تضطلع بتقديم غرة ليلة دخلة العروس - فرقة - آخر الليل للعروس، وأهلها من النساء، حيث لا يسمح للرجل - الذكر - حضور مشاهده التي عادة ما تكون مسخرة نسائية، هذا العرس الاحتفالي يستخرج الدفين من المواجع والتابوات ضد الرجل وتسلطه، هذا العرس الاحتفالي تبدأ الرواية فيه بتوجع شخصيتها الرئيسية لجمهورها: آه يا ننوسي، يا مطلع حسي.
وكالعادة تبادرها الفرفورة أو الداية والبلانة: ما بالك يا ستي؟
وتروح تتحسس أعضاءها المباشرة التناسلية وسط حمى الضحكات النسائية ، وما أجاهد في تذكرة من خبايا هذا المسرح فرقة زنوبة وعيوشة اللتان اعتدنا استقدامهما أيضا من المدينة، ست أو سبع نساء يحترفن التمثيل والغناء والسخرية من الرجل وخصاله و«ذيله النجس» إلى حد المهانة، داخل ماعد أو مقاعد - حريمية - معزولة عزلة حجرات النوم، يحرم دخولها على جنس الرجل الذكر، ويصعب التعرف على خبايا ذلك المسرح النسائي، وبضعة عينات من رواياته أو عروضه التي كانت تستلزم - مثل صنوه الذكري الرجالي - التحكم في الضوء وخفوته، والقدرة على التنكر والتقمص، وتغيير الهيئة، والاستعانة بملابس رجالية، وعمم كبيرة - كاريكاتورية - ومسابح وعصيان وعكاز وجلود الأرنب لصنع الذقون تمثلا بالرجل.
وأذكر أن اسكتشات ذلك المسرح وعروضه لم تكن وقفا على النيل من الرجل بعدما تناثرت منه بضعة مواضيع نسائية عن الحمل ومتطلبات كل أشهره التسعة؛ من أكل أنواع محددة من الأطعمة، وكذا المضاجعة، وأساليب الوحم، وإثقال الزوج بالمطالب، والتوحم ليس فقط على أشياء تؤكل ولو كانت في غير أوانها أو موسمها، وإلا انعكس الحرمان منها سلبا على الوليد خاصة الذكر، بل يصل الوحم إلى حد مطالبة الزوج بالأملاس والصيغة؛ من ذهب لفضة لأحجار كريمة، تعيد صفاء المزاج - كالعقيق - الذي يفك الضيق، والسليماني، وحجر الدم في حالة الفصد، ودم العادة الشهرية.
إنه مسرح غاب عني الكثير منه ومن أسراره الطقسية الموائمة لانفتاحه الإباحي على أقصى مصراعيه، في مواجهة تحطيم كل تابوات الحياء المفتعل المتوارث منذ عصور موغلة في التخلف والهمجية بقيا - شعائر - تقديس الجنس عند العرب الساميين بعامة.
إنه مسرح تتحدث رغباته الدفينة الضاربة عن نساء موعودات ... حيث لا فكاك ولا مهرب من ثقل القدر أو الوعد وتجبره في مجتمع جبري كمجتمعاتنا العربية.
ومن هنا وبالمقابل يتوحد الدهر أو القدر أو الوعد بمواجع - المبلى - أو المبتلى، أو المصاب بأمراض - سحرية لا علمية - مثلما يعرف ب «السودة»، أو لعلها السوداوية - عند بعض النساء الشبقات.
ولعل هذا المسرح الحريمي السحري هو ما دفعني - فيما بعد - إلى كتابة مسرحية المستخبي - شوقي عبد الحكيم - التي بدأت كتابتها فعلا في السجن ، وقدمت على مسرح الجيب المصري 63 مع شفيقة ومتولي، عن زوجة جمال يقهرها إلى حد النفي التام، حتى إذا ما حانت لحظة غدر جمله به عبر فضاء الحقول والأجران تجهز هي عليه متوحد بالجمل المنتقم الغادر، وتقودها جدلية فعلتها إلى حد إعادة السيطرة والتملك لابنها ووحيدها الذي تنتهي باغتياله، وفي حين تبدو أمام المجتمع والعالم الخارجي امرأة ثاكلة تعود فتنهش نفسها في وحدتها وأحلامها إلى مناطق اللانهاية.
ذلك على الرغم من توصلي - في ذات الفترة - إلى جمع كم لا بأس به من استكشات ومواضيع هذا المسرح من أشعار العديد والنواح والبكائيات التي تعد من أشق أنواع الفنون والآداب الشعبية بالنسبة لجامعي الفولكلور - انظر البكائيات الجنائزية - دراسة ونماذج، فمنشدات هذا النوع الأدبي البكائي من الندابات يتوحدن في الوجدان الشعبي الجمعي بالشؤم؛ لذا كن على الدوام عرضة لمطاردة الحكومات الريفية المحلية ورجال الدين، وكثيرا ما تعرض بعضهن للضرب والطرد من مساكنهن، وتحطيم دفوفهن وطاراتهن العنيفة الإيقاع.
ولعل هذا ما صاحب أيضا مطاردة واضطهاد الفائسات على بقايا طقوس تلك المسارح الجريمية من ممثلات وفنانات.
موال العشق الخصيب الأخضر
ولعل أول ما يميز مواويل وأغاني استكمال الدورة الثانية للحياة وشقها المتصل بالحب والتغني بالجنس والزواج وإنجاب الأطفال والإخصاب بعامة؛ هو إغراقها اللامحدود المتمثل في الموال الأخضر في الاحتفاء بالحياة وجانبها الحياتي - البيولوجي - المعاش.
ومن هنا يمكن الإشارة إلى الثنائية - بين الموالين الأحمر والأخضر - التي هي ملمح جوهري - مثله مثل الدهرية والسلفية والغيبية - لتراثنا العربي، والتي كما ذكرنا من المرجع أنها مؤثر - حضاري آري فارسي أو مجوسي.
فإذا كانت التوجهات والشكوى الجنائزية تصل إلى أقصى مداها من أمثلة مأثورية، وأنماط أصلية للموال الأحمر، وما يدور في مجانه ورقعته، فإن نقيضه الأخضر يصل بالتالي إلى أقصى مداه احتفاء بالحياة وشعائر تجميعها سواء بالزواج أو الإخصاب وإنجاب الأطفال.
ولكل مناسبة وظاهرة وحدث ونوع مواويله وأهازيجه وأغانيه، سواء أكان قائل المأثور من موال - أخضر - أو أغنية رجلا أم امرأة، شاب أم عجوز، وفي كل الحالات يرجح بالفعل كما يذكر الأثنوجرافي الفرنسي «فان جنب» تواجد إحدى حالات أو شعائر الانتقال الأقرب إلى أن تكون ليست جوهرية - كالموت والميلاد - بل هامشية من ذلك ما يصاحب أغاني وصلوات الشكر في الكنائس - كما يدخلها كراب - وطقوس انتقال الوليد من طور لما يعقبه مثل تخطيه العتبة، وحلق الشعر بدءا بشعر البطن والرأس والعانة والطهور.
وكذا الانتقالات المصاحبة للزواج من رغبة الشاب أو الشابة في الزواج اللجوء في هذا إلى الموال الأخضر والأغاني، وتضمينها إشارات يصعب كسر تابواتها ومحرماتها، والإفصاح عنها سواء أجاءت مباشرة أو متوارية.
وكذلك يمكن إدخال أغاني ومأثورات الحب والعشق ضمن دورة الانتقالات - الممهدة - لتجاوزه حالة والعبور لما بعدها سواء أكانت من العزوبية إلى الخطوبة التي تكتمل دورتها بالدخلة والزواج، أو من الزواج إلى «الخلف»، وإنجاب الأطفال ثم - توالى - دورة وشعائر مشية المصاحبة لانتقالات الوليد بدوره إلى طور الصبا.
ومن المفيد أن نبدأ تعرفنا على هذا الموال - الخصيب الأخضر - والاستطراد في تقديم النماذج المتنوعة المصاحبة لحالات عينية؛ من التعبير عن رغبات دفينة في الزواج، وأوصاف الحبيبة، وفي أحيان هجرها وهجاءها.
كما سيتضح من نماذجه التالية المستفيضة التي سنقدمها تمهيدا لإعادة التعرض بالدراسة لخصائصها الظاهرية من طوطمية وبقايا طقوس العرس المختلط، وأبنية قرابية قبلية، وتابوات ... وهكذا.
العروسة
ما طلعت فوق السطوح نزلت عيان
أبويا قالي أجيبلك الحكيم قلت الحكيم ربي
قالي أجيبلك الطبيب قلت الطبيب ربي
قالي أجيبلك العروسة يا ليل
قلتلو والله انشرح قلبي.
سيد
الحب بحر البلد وإيش جابو هنا قبله
قاعد على الطاحونة عامل الطاحونة سبله
كلام وأقولك عليه يا خال
واسمع معناتو مني
من زوق حبيبي عطيني نقوطه على ديلة.
براني
يا بو القميص الملس والغزل براني
ماشي تهز اليلك معجب وبراني
صدر الحليوه طرح والطرح براني
واديلي سنة حول يا جميل
وأنا حارس ولا زقتوش
وتهموني في محبتك والغزل براني.
غيب يا قمر
غيب يا أقمر محبولي أخير منك
وأزهى من الشمس وأجمل يا قمر منك
مليش جلد انظرك واعد بعيد عنك
يا حسن يوسف ياللي كل الدلال منك
من قبل ما بعرفك جاني الخبر عنك
انك ظريف المعاني وحلو في سؤالك
غني عن الناس ولا ليش غنا عنك.
سافر
في أمس جانا خبر بأن الحبيب سافر
في شهر يوليه يوافق أربعة صفر
على ضهر غليون والريس يقول سافر
أنا وجفت ما بي وقلت يا ريس الغليوم حل لي بيهم
زعق وقاللي قليل البخت من يومك
حبل الوداد انقطع مليكشي عشم سافر.
دموع المحبة
أبويا زرع لي فدان قصب رحت أشق عليه لقيت بنت
شيخ الغفر فيه
قلتلها ليه كده يا بنت كسرتي عود وخدتيني على
وركي
أنا لفيت السند والهند يا بنت ما لقيت دوا وركي
رحت لأبوها العزيز لفني في العباية وقعد يبكي
نزلت دموع المحبة خففت وركي. •••
عوضنا على الله في شفانا وتعبنا
واللي نحبه لاف للغير وتاعبنا
ياما جرينا وراه في كروم ونخيل وتاعبنا
وكتير من الناس يقول سيبه وارتاح
أنا قلت ازاي أسيبه أنا وارتاح
وهو ملا جسمي السليم اجراح
ما نمت وصحيت لقيت نجع الحبايب راح
ما راح شقانا على الأندال وتاعبنا.
عطوني بخت لقيته
أنا اللي توب الجفا لبسوني الدهر في اديه
قلبي انشوى وانكوى وطال الشوق في اديه
ووقفت محتار وعقلي اندار في اديه
أنا كنت مبسوط في حال الأصول يا عم
وكان لي الدلال على أهلي وجار بيتي
وكان معي طير في بحار الغرام يا عم
م الصبح للعصر كان يصرخ في باب بيتي
أنا مكنشي أملي م الدنيا النظر يا عم
إزاي أنعس وعين الغدر جار بيتي
أنا درت مع ناس لجل
1
الوعد
بيتاجروا في البخت عطوني بخت لفيته
وجبتلو حرير عال من الأبيض ولفيته
على ما اشتريته التقيته أسود في اديه.
سايق عليك النبي
سايق عليك النبي إن كنت باقيني
2
تضحك بس الرضا ساعة تلاقيني
أنا الورد يا حلو وأنت الماء بترويني
إن غبت دبلتني وان جيت بتحييني
وسر تربة نبي زين أحمد شهر دينه
3
إن كان غيرك قمر ما تنظرو عيني.
توفين على بيركم
أنغامكم عندما صاحت سمعناها
خذنا المطايا عرفنا شرح معناها
لا نوم نمناه ولا ملأه قطعناها
توفين
4
على بيركم، توفين على ماها
توفين على أنا ان عدت ادوق ماها
دي برده من الصوف تغني عن حرايركم
ياللي العبيد الجلب
5
جابولي أمايركم.
وتكلني
سلم عليه حبيبي بعد الوصل وتكلني
وغاب عني سنة حول لما دود البلا كلني
وافنن أيه ... وأقول أيه واعيد ايه وشاغلني
مش كان بلاني بعشرة
6
دول وشاغلني
أنا طلعت من بلدي طهقان عشان طير
7
بطلت أكل اللحوم حتى لحوم الطير
أنا لما شفت اللي أحبه هملني ولاف للغير
أنا قلت يعوض الله خير
كأني مت ناقص عمر ودفني. •••
الطير دا اللي ع الشجر عمال بيبكي ليه
بكى وبل المحارم من دموعي ليه
فايت على شيخ عالم يقرأ والكتاب في يديه
رمى الكتاب من يمينه والتفت قالي
الشهد بعد الحبابي يتعملبو أيه؟!
والعلاقة التي تربط بين الرجل والمرأة تلعب في الموال دورا كبيرا؛ فجانبا كبيرا من أدبنا الشعبي يدور حول هذه العلاقة وأحداثها المختلفة، والموال يجمع كل تلك الخيوط والأحداث، ومن وصف الحبيب ... وهجره ... وصده ... ودلاله ... والبخت الذي يتحكم حتى في الحب!
وأغلب مواويل الحب والعشق تأخذ شكل الشكوى من المحبوب، وغالبا ما يكون الشاكي هو الرجل؛ وذلك لأن المرأة بحكم قيود حياتها لا تستطيع أن تعبر وتصرح بما يعتمل في قلبها وعواطفها.
أما الرجل فينوح ويعول، ويتحدث إلى نصفه الآخر، وإلى فعل الأيام ... والبين، وحياته الجدباء التي يرويها الحبيب إذا ما رجعت المياه إلى مجاريها.
وفي أدب الفلاحين قصص طويلة كلها تحكي قصة حب بسيطة، يلعب فيها - الوعد - والنصيب الدور الرئيسي، وفي أحيان ما تختم بمأساة يخلقون منها المواويل الطويلة التي يستعذبون وقعها الحزين، وينسون خلال ترديدها أحداث حياتهم الشاقة، وعذابهم تحت الشمس، وصراعهم اليومي، ومن أجل مواصلة الحياة يوما جديدا!
والموال هنا حين يتحدث عن الحب يصبح رقيقا وبهيجا، ويتخلى عنه التشاؤم والتصلب والحزن والتواكل.
وقصص الحب التي يحكيها قصص ساذجة، يحس الإنسان خلالها الارتباط بين الواقع والعمل، لكنها في كثير من الأحيان ما تتجه نحو قوى غيبية مثل قاضي الغرام، وطبيب لجراح، وهؤلاء يرمزون للمحبين والعشاق العواجيز، وبيدهم إرجاع الحبيب، وإعادة أيام الود.
وحلوبوا
خطر الجمالات على المينا وحلوبوا
وخدوا الجميل مني في غليون وحلوبوا
8
وصبحت أبكي وفاتوني وحلوبوا
شوف العجايب يا طبيب النار زايده جمر
من يوم ما غاب الحبيب والقلب يغلي جمر
والتمر لو ناس معدودة يحلوبو
9
جنس الطبيب في عضايا، قولتلو جسدي
قالي أنت جرحك بالغ، وعشرتك طالت
مع بنت بالغ تقول م التوب يا جسدي.
المايل
مال مرصود وموعودبو المايل
10
للي بياكل في كدي وللردى مايل
تلوف لغيري ليه، وأنا في محبتك مايل
أنا استاهل الكي بالنيران على النني
السجن سنتين، والسجان يكون دمي
11
للي بجوع في نفسي، واطعم المايل.
وتجارب الحب في الموال تجارب خصبة ... طيبة ولها طعم حلو. فهو في مره طلع فوق السطوح، ونزل عيان، وعندما سأله أبوه: أجيبلك الطبيب والحكيم؟ قال له: الحكيم ربي. لكن عندما سأله: أجيبلك العروسة يا ليل ... قولتلو والله انشرح قلبي!
وفي مرة أخرى يقول للقمر: غيب يا قمر محبوبي أخير منك ... وفي موال آخر جرحته بنت شيخ الخفر، التي شاهدها في «فدان القصب»، وعندما ذهب إلى أبيها شيخ الخفر ليشكي له جرحه ... قعد يبكي ... نزلت دموع المحبة خففت وركي! ...
وهو يتوسل إلى حبيبته في عذوبة:
سايق عليك النبي إن كنت باقيني
تضحك بسن الرضى ساعة تلاقيني
ياللي أنا الورد يا حلو وأنت الماء بترويني.
والناس لها حب واحد، وهو له في البلد خمس حبيبات، يصف كل واحدة منهن بطريقته البسيطة الساذجة، كان يقول في: الحب دا اللي بحر البلد، اسمه سرى بالليل من عجب الجميل، راسم على بطنه قنطرة لدوس الجمال والخيل.
وهكذا يمضي في وصف محبوباته الخمس، بنفس العذوبة والبساطة، والكلمات ذات الشحنات الشاعرية، المتفجرة بالحياة.
لكنه في أحيان ما يبالغ في صراحته، فيقول مغازلا محبوبته:
يا بديعة في الجمال طلي وانظري وزني
ألفين من الدهب والزمرد، يعجبك وزني.
ويقصد بوزني الأخيرة الارتباط بها جنسيا ، ويزني معها على أن يهبها «ألفين من الذهب والزمرد ...»
وفي أحيان أخرى يهرب من واقعة، ويتخيل أنه التقى ... بغزال زين واقف بمدغ ع الضروس لبنيه فوق قصر، فهجم عليه وصافحه، ويدور بينهما حوار، ينتهي بالزواج.
ولو كان ربك للعبد بيسيب، ما كان يسيب الدم ع اللبنيه
أي ما كان يسيب الحرام على الحلال وهو بهذا يحقق أشياء بعيدة يتمناها.
وتجارب الحب مليئة بالحكايات المختلفة من العتاب والصد والهجر وبحب «لكن كلام الناس مانعني!» وفي مرة يحب ويصرف نقوده وشقاه على من يحب، وفي النهاية يكتشف خيانة محبوبه، ويحكم على نفسه بأنه يستاهل السجن، والسجان يكون دمي ... «للي بجوع في نفسي، واطعم المايل».
وفي مرة يغضب من حبيبته، ويقرر هجرها قائلا:
أنا لما شفت الندل ميل عليك باسك
رميت حبلك على ضهرك
وقلتلك الدرب اللي أنت فيه مقطع على راسك.
ومن خلال كل هذا يتكشف لنا الجانب العاطفي عند الفلاحين والطبقات الشعبية المصرية.
والموال في تناوله هذا الجانب يبدو متخلصا - إلى حد كبير - من التشاؤم والحزن، والدراما المختلفة ... والرومانسية ... وتبدو هذه التجارب أكثر صراحة وبساطة وإشراقا على عكس نقيضه الموال الأحمر.
وفي البالادا القادمة التي تبدأ بالمدح والثناء على دمياط، وبنات دمياط، وتختم بالزواج الذي يعقده قاضي الغرام.
وفي هذه القصة الشعرية - أو البالادا - تسلسل موفق، يبدأ برؤيته - للبنية، وكيف أمرت عبدها بسجنه، ثم كيف جاء الهاتف في السجن وقال له:
حل قيدك بإيدك، وأوم طالق المشوار
إلى أن تنتهي القصة بالزواج، وعندها تقول له البنت:
الأيام اللي خدتها سجن وإعدام
خدها وصال على مهلك.
بنات دمياط
لو كان أمرك صديق يا شاطر الشطار
أوم اسكن دمياط المرية، قبل ما تنتهي لعمار
دخلت دمياط المرية عافى ومتعني
دمياط جنة، جنينة حوليها صخر وانهار
صليت ركعتين لله، وقريت سورة الفتح
وشويتين جيه البنية،
12
فاتحه قلوعها فتح
ملت وشالت وقلب العاشقين شال معها
دبيت على الباب، قالي عبدها مالك؟
وأنا وقفت في الحارة ... حيران ودليل
دبيت ع الباب، قالي عبدها مالك؟
احنا عبيدك يا جدع ولا شروات مالك؟
ولا ليك مين يا جدع في البيت بيقربلك؟
قلتلو لو صدق الكلام يا عبد تكون ستك
قالي اسأل نجوم السما والعرش أقربلك
البنت طلت قالتلو خدو يا عبد
وديه ع السجن والأغلال
سجن الحليوه يا سلام سلم
فيه البق والهلبوشي، لتنين مرحموشي
وشويتين جاني هاتف من ورا ضهري
قالي حل قيدك بإيدك وقوم طالق المشوار
يجازيك يا قلبي يا للي ما وراك شوار
سحبت خرجي على ضهري وقلت:
يا شندري
13
يا بندي، يا ريحه مع العطار
البنت طلت من الشباك وقالتلي يا جده معاك كحل؟
قلتلها كحل ومراود!
قالتلي يظهر عليك أنك ابن حلال تعطي وتتجاود؟!
قلتلها أنا ابن حلال، أعطي واتجاود
بس خايف من أبوكي ليقولي من هنا عاود!
طل أبوها وقال خدو يا عبد وديه ع السجن والأغلال
أنا قلتلو يا عم سجنك ما رحوشي
دا فيه البق والهلبوشي يا عم لتنين مرحموشي
ياللا بينا يا عم على قاضي الغرام يللا
أنا رحت لقاضي الغرام، وقلتلو:
بنات دمياط سجنوني ...
قالي البنت حلوه يا شاطر؟
قلتلو اسمها سكر!
وريقها عسل نحل، لو داقو العليل يسكر
بعتوا اتنين يجيبوا البنت واتنين يحادوها
14
أمها واختها لتنين سندوها
البنت دخلت لقاضي الغرام قال لها:
يا بنت مسمحتيش بوصال الجدع ديده!
15
قالتلو يا سلام يا قاضي!
ومين عملك علينا قاضي؟!
قالها اخرسي يا بنت
دا أنا كان عندي مهرة زيك مدلعها
ضحك عليها الكديش
16
في لصطبل وقعها
البنت سحبت الجدع من يمينه وقالتلو
ليام اللي خدتها سجن وإعدام
خدها وصال على مهلك.
بجازيك
يجازيك يا لايم عليه في الغرام
أوى تلومني فيه
دا الحب لو نار والعة
في المهجة وشالعه فيه
يا زارع السنط هيا ودادي فيه
دا السنط كله منافع
أما الأرد نرميه
والمركب اللي انخرق
حسك تعدي فيه
وإذا جافاك من تحبه
خد بداله من الحارة واقعد وكايد فيه
والصاحب الزين لو تبلغ مرادك
اقلعوا النضر وهادبه
والصاحب الشين كف قدمك عنه
من نظرك من بعيد وارميه
المركب اللي رسيت البر بسلامه
مركب نقيه أسسوها بخشب السنط
فيها شيخ عالم ماسك كتابه
بيقرأ ويطالع ويتكلم كلام بالصمت
رمى الكتاب من يمينه والتفت قاللي:
ان جار عليك السفيه يا ابن الكرام
واجب عليك تقتله بالثبوت والصمت
تزرع جمايل مع المايل خسارة فيه. •••
جميل وقاللي إيش بتطلب قولتلو أنت
قاللي حاجيبلك بدالي وقولتلو وأنت
قاللي حاجيبلك أخويا قلت أخوك وأنت
قاللي يا ما أنا خايف تبيح بسرك
أنا قلت والنبي عيب
ما أبيح بالسر إلا إن بحت به أنت. •••
أنا بسأليك يا بحر النيل من هبلي
وبستشهدك في شهادة لحسن نومتي على فرشة الزين
واللا الصلا والعبادة
قاللو الصلا عمود الدين يا ابني
وينفعك في مماتك
أما نومتك على فرشة الزين
دي نزهتك في حياتك. •••
جميل قاللي أوعى يعجبك طولي وأنا ماشي
قولتلو بلف في الكون شكلك ما بلقاشي
قاللي تسافر معايا قولتلو ماشي
قاللي وأهلك وبلدك قلت ومعاشي
حاسافر معاك تخليني على كيفي
ساعة وصال أطلبك حكمن يكون ماشي. •••
إذا كنت يا حلو تديني ما أنا طالب
أنا كنت أوهبلك الروح والجنة ولا أطالب
أوهبلك الروح والجنة وكل شين فيه
أهل المحبة يموتو والحيا غالب. •••
يا حلو ياللي علشانك رايحين نعدم
ومحبتك في قلبي وأنت لم تعلم
إن جدت بالوصل لم حد بيه يعلم
وان ما جدت بالوصل لنا رب نشكيلو
ونريح القلق قبل الجسم ما يعدم. •••
غيب يا قمر محبوبي أخير منك
أزهى من الشمس واجمل يا قمر منك
يا حسن يوسف ياللي كل الجمال والدلال منك
أنا قبل ماجيلك جاني الخبر عنك
بانك ظريف المعاني حلو في سؤالك
ليا غنا عن الناس ولا ليش غنا عنك. •••
بنيت أساس العجب والشرع بان ليا
اللي حضر سد بان خالي وبان ليا
عملت صياد وبصطاد شلبه وجنيه
ولما عجبني السمك صيطلي شويه. •••
حطوا الرفق في أناني الورد واوعولو
وادوه لناس طيبين الأصل يوعولو
إن مات ظريف المعاني قبل ما طولو
لبحث
17
عن ترتبه واتمد في طولو
وان جم الملكين يحاسبوه
لقوللهم سيبوه دا صغير السن وصغير
ديرم حسابو عليه اوعو تروحولو.
18 •••
دمعة من العين ملت البحر لعبوبو
علشان جميل زين كل الناس لعبوبو
قدر عليه أن جاني موشق ورد لكعوبو
قسما وبالله وصوم العرش يلزمني
ما عدت أدور بالردى ما دام لندال لعبوبو. •••
إن جدت ما جدت لحبيبك تبوس القدم
قوم اسأل اللي كبار عنك وكانوا قدم
والله ان ما جيت تتمخطر ليا بارفع هدم
وتزمزم الكاس وتقوللي اشرب هنيالك
لخرب ديارك وأخليها خرايب قدم. •••
جميل عمل صرته مركب وعداني
جابني في وسط البحر واتقلب راح تاني
أنا قلت يا ريس الغليوم عاود بنا تاني
قاللي حبل الوداد انقطع مين يوصلوا تاني. •••
يا خسارة مشيك مع المعيوب يا كامل
كامل مكمل واسمك في الورق كامل
أصوم عن الزاد وأفطر كل يوم ع المر
وأكف قدمي عن اللي يسمعني كلام مر
داخل الروض ... فيها الحلو وفيها المر
الحلو منها أكل والمر عليه مر.
من أهم المصادر
19
التي أمدتني بعدد وفير من المأثورات القولية ما بين مواويل ... وحواديت ... وحكايات راوية يدعى «أبو نادي» هو رجل ضرير مسن - 85 سنة - من قرية «الزاوية الخضراء»، وهي قرية صغيرة في حدود 500 منزل، تقع بالقرب من بندر سنورس بالفيوم، والرجل يعمل بائعا جوالا صغير كما قال لي: أنا بشتغل في بيع شوية ليمون ... طماطم ... زيتون ... خيار ... عنب ... وكل حاجة في جمعتها ... أي: في موسمها.
ان دبل الورد اسقوه بالقانون
وإن نام حبيبك صحيه بالقانون
وسر سورة تبارك والألف والنون
بعد الحبيب عن حبيبه صبحه مجنون
ان دبل الورد اسقوه بالقانون.
ويبدو - كما عرفت من بعض أهل بلدته - أنه يتحرك تظلله ذكرى مأساة قديمة ... كانت قد حدثت مع زوجته - أم نادي - المتوفاة ... فيبدو أنه كان قد ضبطها مع غريب في البيت ... ولهذا طلقها ... ويبدو أن المرأة ماتت بعدها:
طقت ... ماتت
ولهذا كانت تدور معظم مأثوراته حول هذه الكارثة الشخصية للزوجة الخئون:
المركب اللي كل البراق
20
فيها
يحرم عليه سفرها حتى نزولي فيها
أنا كان في ايدي لمونة والرب حاليها
خايف أكلها يكون تمر المشوم فيها
أنا مسكت طيره وكان بدي أداديها
وقعت وسط الكرم ... وكل الجيش محاديها
وعشق البنات الهمايل يجيب العار لهاليها.
21 •••
تعبان يا قلبي ع الرفق القديم تعبان
وشايل الحمل التقيل دايما تعبان
عجبي على عدره جميلة بتاجي م العشا للعشا وتنام
في حضن خشنه عشيم لكن طولت ليام
البنت تقوم م النوم تقول يا رب يا ديان
تتوب على الصبية من نوم الخشنة الغشيم دبل الرمان
تعبان يا قلبي ع الرفق القديم تعبان. •••
عايروني الرفاقي وقالوا يا اسمر اللوني
أنا قلت اسمر لكن البيض يحبوني
لو كنت زليت خدوني في البحر وارموني
ورشو النيل في جسمي وفي عيوني
دا ذلي يقول حبيت يا ناس حبوني. •••
عجبي على عدرة جميلة سارحة بالليل في الحتة
بديعة في الجمال لكن ما فقلبهاش
22
محنة
وإذا كان معانا مال كنا خدنا البنت ودخلنا
إلا بلا مال وحب البنت شاغلنا
أمانة عليك يا شيخ ياللي معاك المال ياللي تتحنه وتتهنه
وتقعد على قبر بلا درجات
وتقول روح يا ميت هناك ... ياللا ...
دي بديعة في الجمال ومفقلبهاش محنة.
ويصل تقديس الخال في هذا التراث - الأموي - العربي إلى حد مطالبة العريس في اختيار عروسته، وأخوتها خيلان - جمع خال - أبنائه:
يا نازل الكرم انزل الكرم ونقي م الفروع العال
واسأل على الشجرة ومنبتها قبل ما تحط المال
وقبل ما تناسب حاسب ونقي لبنك خال
إن مت ولا عشت تشهد لك رجال
يقولوا بأنك راجل عال ... نقيت لبنك خال.
وكثيرا ما يتحسر القائل على خيانة الود، وبحسب تصوره للزواج على اعتبار أنه تملك وشراء، ويطالب في المأثور التالي ببيع «كحيلته» في السوق كمثل دابة:
صعبان
23
عليه كحيلة كنت مربيها
خانت ودادي ولا طمرشي الرباية فيها
أنا قلت ... دلال خدها على سوق لتنين وديها
وان ما تبعتشي في لتنين انزلبها التالت
دي طلعت خاينة ردية ومن لحم البغال شالت
وان ما تبعتشي في التالت يا دلال انزلبها لربع
دي خانت يا دلال بعد قدح سمسم ويا تلات تربع
وان ما تبعتشي في لربع انزلبها الخامس
وإن ما تبعتشي في الخامس انزلبها الجمعة
واعملها سوق على غير سوق والناس مجتمعة
وان ما تبعتشي في الجمعة انزلبها السابت
دا أنا أحسبها أصيلة يا دلال وحبي في قلبها سابت
24
أتريها زي أمها من قبلها في الخلا سابت. •••
والحلو شيع
25
وقللي نصطلحشي عات
ونترك اللي مضى ونجدد اللي عاد
شيعت أقوللو من سو بختك سبقت اللوعات
شيع وقللي هاحلفك ولا ميعاد
شيعت أقوللو يا فتى اللي جرى كفى
وإذا كان شعر الدماغ ينبت من الكفة
يبقى الزمن اللي مضى بيناتنا ينعاد
أنا اللي صاحبت صاحب بيغضب كل يوم نوبة
أنا كل ما روح أصالحه أجيبه من كل بيت نوبة
أنا صاحبتو وقلت دا يزيح الهموم عني
زرعت حب الوداد في الأرض واتعشمت
وقلت دا يطلع وأكايدبو الأعادي الشمت
أتاري الأرض فيه داء ساعة الكيل يخس النص
والحق عندي أنا اللي شبت ما تعلمت.
وفي المأثورتين التاليتين يتضح مدى تأثير العامل الاقتصادي الطبقي حتى في علاقات الحب والعشق والجنس كاحتياج بيولوجي، لمن بيده المال والريالات.
أنا في إيدي منديل أحمر وبلح أحمر
واللي معاه مال من صنف الجنيه لحمر
يبات يقلب في شفايف شبه العسل لحمر. •••
أنا في إيدي منديل أبيض وريال أبيض
واللي معاه مال من صنف الريال لبيض
يبات يقلب في شفايف شبه العسل لبيض.
فاتوك
فاتوك يا قلبي رفقاتك أهم فاتوك
وجابوك في أيام العنعنة
26
والدندنة وفاتوك
لو كنت تعلم يا قلبي جمعة حبوك
ما كنت مشيت معهم
اللي انت شاري يا قلبي
وهمه في الأصول باعوك.
بخاطرهم
فاتوك يا قلبي رفقاتك بخاطرهم
سمعوا كلام مغمضة غير بخاطرهم
سايق عليك النبي يا قلبي
إذا كنت حابب دول ورايدهم
متبقاش تدور على الأسية اللي جرت منهم
ولا حتى تكسر ... يوم بخاطرهم.
يا قلبي
يا قلبي جريك على أحبابك يستألوبك
27
وان اتبهت عليهم بالقوي لازم يستألوبك
أنا معي جرح من جوا الحشا وتقيل
عشان ما قلت إني أحبك وأريدك تعمل عليه تقيل
يا قلبي لما ابتليت بالغرام خليك زي الجمال راسخ وتقيل
تبقى انت زي التمر بعد الزاد يحلوبك.
يجد فراق
أنا ما كنشي عشمي يا زمن إن بعد اللمة يجد فراق
ويحمل الركب. ويسيبني وأنا مشتاق
وان طال غياب الحبايب عليه لكتبه في أوراق
أنا معي جرح من جوا الحشا نادي
نهار أشوف الحبايب يبقى نهار نادي
وان جا حبيبي بلغت القصد ومرادي
وان جا عزولي لقوللو: روح يا فاضي
تبقى عزولي وتعمل بيناتنا قاضي
مثل سمعناه من اللي قبلنا قالوه:
الحل بعد الحبايب مر لم ينداق.
أمراض الحب والعشق
بالنظر إلى أن تراثنا العربي بكامله من تقليدي، كلاسيكي، وشعبي فولكلوري؛ يوغل في الإغراق في المترادفات الوحدة المتوحدة للجبرية والدهرية والقدرية والوعيدية، كما سبق لي أن أفضت في طرح هذا الملمح الجوهري في معظم كتبي عن فولكلور وأساطير العالم العربي، والأساطير الفولكلور العربية، والحكايات العربية الشعبية، وعلمنة الدولة، وعقلنة التراث العربي.
لذا لا يستثنى - بالطبع - مأثوراته الشعرية، وأغانيه التي هي موضوع هذا الكتاب؛ عن شقيقاتها من حكايات وأمثال وسير وملاحم من الإغراق في بحار الدهرية والغيبية، وأفعال الزمن والدنيا والأيام والخطوب والليالي السود، ويكثر هذا الملمح بإفراط واضح في مأثورات الموال الجنائزي الأحمر، لكنها تصبح أقل منها في نقيضه - الدنيوي - الأخضر، المتصل بطقوس التجميع والإخصاب، بدلا من الغياب والتفرق - أو ما يعرف بالفرقة «بضم الفاء».
إلا أن مثل هذا التوغل الجبري الدهري تتزايد حدته في المواويل والمأثورات التي مجالها وقائلوها المعلولون والمجروحون بالحب والعشق، وعلى كلا الجانبين أو النوعين، سواء أكان المعلول رجلا ذكرا أو انثى، إلا أن المأثورات المعتلة بالعشق وأمراض الحب ترد بكثرة منتسبة إلى قائليها، وجمهورها الذكوري عنها في حياة الفتاة الأنثى.
ومن أمثلتها السابقة واللاحقة الحاجة إلى الإتيان بالحبيب والعشق سواء عن طريق طبيب المبالي والأوجاع أو طبيب لجراح أو البين وأهله وعائلية الذين كثيرا ما ينكلون بضاحياهم - من المعلولين - عن طريق إيقاعهم في أمراض العشق هذه:
يا مين يجيبلي حبيبي وياخذ من عيوني عين
وياخد نص التانية وأشوفو بنص العين.
ومثل:
أنا الذي ابتليت بالغرام وستي حامله في أمي
أي إن قائل المأثور السابق كتب عليه «الدهر» الموت عشقا قبل أن تولد أمه أصلا.
ومثل:
ما ظهرت الآه إلا من عليل الحب
ومثل:
وجرح العليل ما يطيب إلا إن نظر خله
ومثل:
يا ما مجاريح عاشوا بطول العمر ماطالوش
ماتوا بنار المحبة والحيا غالب.
وكيف أن من كان له حبيب قاصد عينه ولم يطله، فإنه يظل يتوجع من قولة «آه» حتى ينسلي ويموت.
فالمحبين والعشاق و«أولاد الغرام بدلوا غناءهم بالعديد والندب والبكاء»، وهو صحيح إلى حد كبير إذا ما أعتبونا مأثورات جرحى العشق بكائيات ذاتية أو جنائزية.
وكثيرا ما تتمثل هذه المأثورات الشعرية بشخصيات تاريخية وأسطورية عاشقة؛ مثل: نعيمة، وشفيقة، وعزيزة، وناعسة زوجة أيوب، وكذلك بشخصيات خرافية لقصص شعرية أو بالادا مندثرة، وقد يكون كل ما تبقى منها ومن ملامح ودفائن عشقها الجارف المميت سوى مثل هذه المأثورات التي عادة ما تدور حول شخصيات تدعى «ورد وسلبند»، وفي مأثورات شعرية أخرى ترد باسم «ورد وإدريس»، منها هذا المأثور:
إدريس لقى وردة بتبكي
قال لها: مالك؟
مالك ومال الغرام يا وردة
واخداه في بالك
قالت له وردة:
ببكي على شاب يا إدريس
كان في الحشا مالك
لو جوز عيون سود
إن فتحوا صبحوك في الحشا هالك.
وكثيرا ما يدور الحوار بين عليل الحب أو العشيق المبتلى وبين طبيبه، أو طبيب الجراح الذي - كما يرد في المأثور التالي - ما إن رأى مريضه حتى بكت عيناه، وما إن كشف على علته وجرحه بمبضعه ومرهمه حتى بانت عيناه الجرح، وهنا سأله العليل - بالهوى - عن كيف أن نار الحطب قد تشابه لنار - خشب - الدوم، فأجابه الطبيب بأن نار الحطب تنطفئ، أما نار المحبة فدائمة الاشتعال، في صدر المحبوب المبتلى طبعا.
طبيب الجراح
طبيب لجراح نضر جسمي بكت عيناه
كشف على الجرح بالمرهم بانت عيناه
قاللو أمانة يا طبيب:
نار الحطب تشبه لنار الدوم؟
قاللو:
نار الحطب تنطفي يا ابني ونار المحبة دوم
أنا لا بسهر أرتاح ولا بنعسي يجيني نوم
إذا لم أشاهد حبيبي وانتظر عيناه. •••
عيني رأت بنية حية من بلاد الغرب
لابسة توب أسود من جناح الغرب
شفقت بحالي وتاه الفكر عن بالي
شفقت بحالي وحملت الكتب ع الغرب
أنا قلت هيا بنا يا طبيب بالعجل نمشي
في باطني جرح يا طبيب بسهربو ولا نامشي.
وفي المأثور السابق المجلل بالقتامة، حيث إن قائله ما إن رأى فتاة «من بلاد الغرب» بما يوحي أنها غريبة، أو أنها أجنبية - غربية - كما أن الغرب دائما مرتبط في مأثورات - وفولكلور - الجهات الأربع أو أربعة أركان التابوت بالجهة الموكل بها دفن الموتى، ولتكن «بلاد المقابر» أو الضفة الغربية للنيل حيث المقابر، وأهمها مقابر وادي الملوك بمصر العليا.
بل وكثيرا ما يعتل طبيب المحبين ذاته بالعلل والأوجاع، عندما تصرعه عيون المحبوبة وبهاؤها، حيث الكشف عنها ولو بالنظر:
إزاي أنام يا طبيب وآهو تاء مني الكيف
علشان ظبا
1
ترك طيا طبيب لحظة كيف حد السيف
قاللي ياللا بنا يا عليل بالعجل يمه
نحققه بالنظر لم نختشي منه
راح الطبيب وجاني منطبق فمه
وقال يا ناس أنا شكل الجميل دا ماريت
الوجه زي القمر أما العيون دي ماريت
2
أنا من يوم ما شفته وطبق الورد ما شفته
البيت عفته
3
وأحلا طعامنا ما ريت.
4 •••
في باطني جرح يا قاضي الغرام غلايين
وأحباب قلبي إن غابوا برضو هم غاليين
أنا الذي عند خصماتي حلفت يمين
أنا ما هابطل الغندرة ولا أدي للعدا واطي
وإيش أوصف أن القوارب تشبه الغلايين. •••
آهين على وحدتي والوعد لسه بعيد
أنا ما كواني وخلاني في الخسس ما يزيد
أنا ماكواني إلا العوازل بيبرشم في الكلام ويعيد
67 أنا بيدي ولا فيدي إلا منديلي لبيض
والقط كل دمعة بإيدي
دا اللي سعدهم زمانهم فنارهم من أول الليل بيايدي
لكن ولاد الغرام بدلوا الغنا بعديد
لامو عليه العوازل قالولي قوم يا مبتلى
ابدل القديم بالجديد
لحسن دا بكره العيد
أنا قلت خلي العيد لاصحابو
إيش يعمل العيد للي تفرق أصحابو
أنا عندي لمة أحبابي أحسن من ليالي العيد
صبح سلام اللي أحبه من بعيد لبعيد
آهين على وحدتي والوعد لسه بعيد. •••
جرا اللي جرا يا عين ما حد عزاني
وطلعت أعزي لقيت الندل عزاني
الوز ماهوش ظفر دا القول على الضاني
أنا كنت أنزل الحرب واتباهى بعزالي
الحرب حربي وأنا اللي جيتلو ما جاني
أيوب لما ابتلى واحد ودا التاني
احنا سمعنا مثل من الكبار قالوه
أهل البلدي خدولهم سبر طلعوا فيه
ما يعشقوا إلا قليل الأصل والزاني. •••
عاشرتكم ع النقا وايش نابني منك
إلا المسبة وتسويد الوجوه منكم
انتوا كان لكم باب من ساعة العشا يلكم
اتفندق الباب وبقى الندل يخطر فيه
وخصايل الندل آهي لاقت بخاطركم. •••
ما أصل يا عين دمعك على الخد ما ينزل
قالت على الصاحب اللي ربط ع الود ما ينزل
مضى زمانو على ضهر الخيل ما ينزل
أنا اللي من صغر سني في الهوا طالع
ربي أتاني بعزول قطف زهري وأنا طالع
عمل معايا عمايل الصبح وأنا طالع
في وسط شارع ترش الملح ما ينزل.
ينسب هذا المأثور - أحيانا - لشخصية «بالاد» خرافية؛ ورد وحبيبها سلبند، وسنتعرض لها تباعا:
سلامات م الغيبات مد ايدك وشابكني
ياللي غرامك طحن قلبي وشابكني
لك جوز عيون سود كما السنار شابكني
إن أسبلم جرحوا وان فتحوا صابوا
دا أنا اللي خايف على العمر يفنى وانت شابكني.
وكثيرا ما يتمثل تنكير وعذابات ذلك الكائن الخرافي - البين - بضحاياه عن طريق الحب وأمراض الغرام:
فات شهرين ... وراح شهرين ... وجه شهرين
نص السنة فاتت ما انطبقلي رمش جوا عين
البين وعم البين وخال البين
البين ركبلي ع الخدين دولابين
وكل دولاب بستاشر قنا تجري
بينزحوا دم من مغرم كواه البين. •••
شعبان ورمضان وشهر العيد ومحرم
لربع هلالات على نومهم جرم
لا بسهر ارتاح ولا بنعس يجيني نوم
ولا أكل باكل ولا ليه جلد للصوم
وآدي خلي البال راقد لم بيتحرك.
ويبدو أنها واحدة من أغاني ومأثورات العمل لمهنة النساجين، وعثر على أغاني عملهم في الفولكلور الأوروبي بكثرة:
يا نجمة الصبح طلي وارجعي روحي
وسلميلي على اللي مهنياه، روحي
5
وسر من أنزل القرآن في اللوحي
حابكي على الناس ولا ابكي على روحي.
ويتضمن المربع التالي لغزا شعائريا لذلك الطير الرابض في كبد السماء، لحمه حرام أكله، على عكس من دهنه:
رق عن أهل العشق يا مالك
وادري بأن مذهبي مالك
عيني رأى طير
6
في كبد السما بارك
لحمه حرام ودهنه حلله المالك. •••
يا مين يجيبلي حبيبي وياخد من عيوني عين
وياخد نص التانية وأشوفو بنص العين
الحلو قابل حبيبه في نهار اتنين
قعدم يعيدو الكلام بكم سوا لتنين
اتنين في اتنين يا قاضي الغرام أربعة واتنين
اتنين في حيط واتنين في بيت واتنين في بحر
واتنين في غيط واتنين في قصر واتنين في مصر
واتنين في اصطمبول
اتنين في حيط دي عقدة ودي صره
واتنين في بيت دي قحبه وادي حره
واتنين في غيط دي حلوه ودي مره
واتنين في بحر دي لفشه ودي بنه
واتنين في قصر ... أنا ومحبوبي نسكر في أوان العصر.
البالاد ... وأمراض العشق
وفي قصة العشق الشعرية التالية، والتي يمكن أن تصنف على اعتبار أنها «بالادا»، والتي تثبت مقولتها المحورية، أن التعبير المتوجع «آه» لم يأت ويصدر إلا من عليل الحب.
ثم تحكي عن ذلك العليل الذي كان «يمشي في الحرير ويخب» إلى أن ابتلي العشق، فصرع وجاءه طبيبه ليطببه من «أراضي الشام» التي لا بد وأنها كانت متفوقة في الطب؛ لكثرة ما يستشهد في هذه المأثورات بفصاحة حكمائها وأطبائها.
ثم كيف أن جرح عليل العشق المتقيح الدامي تسبب في قتل الطبيب المداوي، فلم يعد ويرد لوطنه، وحاول ابنه السفر إلى مصر لإرجاع عظام أبيه، فأثنوه الناس، وأخافوه وأرجعوه، إلا أن أمه أصرت على سفر ابنها لإرجاع جثة أبيه، وهكذا سافر الابن على بكره أو جمله - المنكوي نابه - فوصل العليل في خامس يوم، وعلم بموت أبيه، ورغم ذلك حاول رد اعتباره - كطبيب شاطر كأبيه - أن يعالج عليل العشق الذي عاجله قائلا:
يا ابني دول وصفم لجرحي
تلتميت أردب خردل كل حبة بألف
وجاني ألفين طبيب شطار وكما تبعهم ألف
جميع هؤلاء الأطباء غطسوا في جرح العليل، الذي
من سوء بخته «غرق الألفين، وتاه الألف»
وأنا أصل جرحي من المحبة جلف
وما ظهرت الآه إلا من عليل الحب «ما ظهرت الآه ... إلا من عليل الحب»
ما ظهرت الآه إلا من عليل الحب
ما قالهاش آه، إلا لما ملتقلوش طب
من بعد ما كان يمشي في الحرير ويخب
صبح عليل وحاله لم يسر حبيب
قام درى عليه طبيب شاطر من أرض الشام
ركب على بكرته ورحلو في نهار الحد
ولما كشف عن الجرح فجت ريحه منه
وقع الطبيب مات في الوطن لم رد! «الطبيب كان لو ابن»
قال: والله الخبر دا ما درينا بيه؟!
واجب عليه أروح لو أعزي فيه. •••
الولد طالع واحد من بلد العليل لاقاه
قالوا يا ابني عاود من هنا تاني
لتموت زي أبوك، ولا ترجع ع الوطن تاني
قالوا: إزاي أعاود من هنا تاني؟!
وأنا بعد أبويا كواني! •••
الولد عاود يبكي دمعة من العين دي ودمعة من العين دي
وقال: وحداني وبقى كدى على زندي
أمه تقوللو: عاودت ليه با ابني؟!
قال: واحد من بلد العليل لاقاني
قللي عاود من هنا تاني
لتموت زي أبوك ولا ترجع ع الوطن تاني
مرات الطبيب لها أخت، قالتلها:
يا أختي ابنك بقى راجل. هو جوزك كان حنش
والا الأمير فاضي!
قالت لها: جوزي كان طبيب شاطر مهنيني
وكنت شايلاه لعازات الزمان وغسلي وتكفيني
قوم يا ابني سافر ما تعمل على عندي
سافر وهات عضم أبوك ادفنه عندي
الولد كان عنده بكر
1
منكوى نابه ...
سفر أربعين يوم في أربعه جابه ...
خامس يوم فتح ع العليل بابه
قاللو: تعرفشي يا عليل الطبيب اللي كان هنا راح فين
قاللو: مات ... وانت عاوز أيه؟ •••
الولد طلع خاطره مكسور
يلف في البلد يلقى البلد عالية وعليها سور
يقول : يا أهل البلد دي، تعرفوش الطبيب ...
اللي كان هنا راح فين؟
قالولو مات منشهدشي شهادة زور
مقال يا بكر الشام دلبنا ...
ياما كشفنا عن جروحات وقطبنا ...
اليوم ظهر عليل في الحي غالبنا! •••
سمع كلام العليل، قال:
هاتوا الولد هاتوه ...
قاللو: بتقول إيه يا ابني؟
قاللو: بقول يا بكر الشام دلبنا ...
ياما كشفنا على جروحات وقطبنا
مقدمة عوم، والموج غالبنا
واليوم ظهرت أنت في الحي غالبنا. •••
قاللو: يا ابني دول وصفم لجرحي
تلتميت أردب خردل، كل حبة بألف
وجاني ألفين طبيب شطار
وكمان تبعهم ألف
دول ودول نزلوا في الجرح غطاسين
من سو بخت العليل، غرقوا الألفين
وتاه الألف
وأنا أصل جرحي م المحب جلف
ولا ظهرت الآه إلا من عليل الحب. •••
الحمد لله بلانا طاب ما عاديناش حد
بلوه خفيفة وماحملناش جمايل حد
مشى الجميل مشيت وراه بالقدم والحد
أنا عملت شحات طالب حسنة الأموات
قاللي بلاش مرقعة ماقبلناش حد
أنا قلت يا شيخ والله أنت كلامك جد
إن كان أهلك عليه علموك الصد
الزم محلك ولا بفتشي تواعد حد
أم العليل سافرت من جد ل تاني جد
تجيب دوا ابنها اللي انطحن جسمو
وحيله انهد. •••
اكم يا عبد تزني والإله يستر
ما فوت لمن لقيتك ع الجبين تستر
في ايده كتاب المحبة فيه عشر تسطر
أول من السطر تنساني يا جميل ما نساك
يسعد صباحك من الله يا جميل ومساك
ومين دا اللي عليه بالجفا أساك
هو أعطاك مال والا خاص الحرير وكساك
تاني من السطر تهجرني بلا ذلة
خليت عضايا على النيران تتقله
وسر تربة نبي وابن عبد الله
خليت جسدي من الهجران تتقله
تالت من السطر كامل والنبي كامل
من يوم ما غابوا الحبايب والقلب ما تكامل
وسر تربة نبي راحلو الحج متكامل
أنا ابتليت بالمحبة قبل ما تكامل
رابع من السطر بنيت بحر المحبة طين لقيتو جبس
ولأن عليه اللي أحبه بعد ما كان دبس
2
والله المحبة بلا ما هياشي بكتر اللبس
خامس من السطر ياما الناس سبوني
صارم حواسه على بابه وفاتوني
وسر تربة نبي في الشرق مدفونة
من عاند أهل المحبة صار مجنونة
ساتت من السطر أخشى الله يا فاتك
اضحك بسن الرضى ولا تشغل بالك
سابع من السطر شوف حالي ولا ترحم
مشبوك بعنبك وانت يا جميل أرحم
وسر تربة نبي راحلو الجمل أرحم
من داق غرامك يقول نار الجحيم أرحم
تامن من السطر شوف حالي وتيسر
شوف من كواه البين وتحسر
وسر تربة نبي راحلو الجمل فسر
أنا ابتليت باللي أحبه قبل ما فسر
عاشر من السطر آهو جاد الجميل بالوصل
وبات في حينا ما عدشي يقصر قصر
والله المحبة بلا ماهش بكتر النصر
وانت يا رب على قتل الغرام تستر.
نزلت السوق أجيب غلة
أصل الحكاية نزلت السوق أجيب غله
السعر غالي لكني في الحبوب غله
لقتني عدره جميلة في أيدها حلة
حلت بمضايا وجسمي حلته حله
أنا قلت يا ست بدي احظى بوصلك يوم
قالتلي تروح فين يا غلبان ويا مغلوب
باما اكم حوجة نفق ماله وصار مغلوب
وأنا شيفاك من كتر مالك لابس القميص مقلوب
قلتلها يا ست أنا حرايري أبيع في الحرير شراي
وعندي الدهب أنا اللي بصبو صب
حتى جمالي البخاتي باركه في الدرب
قالت:
إن كان الكلام دا لو إثبات جود حدانا
حدانا يا جدع الليلا
دي وبات
أنا رحت السوق جبت رطلين لحم
وقلت يا واد على بيت الصبية مر
قابلني طير اسمو الغر
خبطت ع الباب طلعتني قصر بتلتميت سلم
وكل سلم يقول يا سلام سلم
فضلت مقعداني لما مجلس الصبح خد حقه
الديب عرف عشته والفار دخل شقه
قلتلها:
يا وليه دا أنا صعيدي وضراب طوب
أعد كما الألف لمن آخد المحبوب
زعقت:
يا بربري حداك شومة ورا الباب مبرومة
جابتها يا ناس وعطتني بها ألف معدودة
وزقلتني من الشباك
كان ساعتها الغفير بيقول يا دايم
هو الجدع دا بيسرق خير وبهايم؟
أنا قلت يا واد قوم اتمشى
لا ييجي الغفير يضربك لما تستكفى
أنا جبت محرمه وربطت بها ضلوعي
تمنين يوم لمن طابت أوجاعي
وقلت يا واد روح للصبية في صفة حمار أو ساعي
أنا قلت بيت الصبية فين اللي سبت من العشاق ألفين
القتيل اللي قتلته أهله قاعدين في المحكمة صافين
قالتلي:
المطرح بعيد، وأنا مستكلفة المشوار
قلتلها:
عندي حمار أخضر وأعملك البردعة زعبوطي
بقى الحمار يجري وأنا ف نار الحب يا غدار
أنا جبتها ف سكة منقطعة
قلتلها:
اقعدي هنا بلاش قضية
لو كلك أكل مالوش عدادية
قالتلي:
حيلي على حيلك
ياللي البواكي بتشكي في تراجيلك.
الحبيبة الكحيلة
صعبان عليه كحيلة كنت مربيها
خانت ودادي ولا طمرشي الرباية فيها
أنا قلت: خدها يا دلال على سوق لتنين وديها
وان ماتبعتشي في لتنين انزلبها التالت
دي طلعت خاينة رديه من لحم البغال شالت
وان ماتبعتشي في التالت يا دلال انزلبها لربع
دي خانت بعد قدح سمسم ويا تلات أربع
وان ماتبعتشي في لربع انزلبها الخامس
وإن ماتبعتشي في الخامس انزلبها الجمعة
واعملها سوق على غير سوق الناس مجتمعة
وان ماتبعتشي في الجمعة انزلبها السابت
أنا أحسبها أصيلة يا دلال وحبي ف قلبها ثابت
أتاريها زي أمها من قبلها في الخلا سابت.
البنت حكام
أول كلامي أنا بمدح الهادي
بمدح نبي زين في كل بلاد وأراضي
إلا وصبية قابلتني الصبح وخدها نادي
شاورت عليه وكلمتني وندهتلي
فز أبوها اللعين وقاللي:
يا جدع إيش كلمك بنتي؟
أنا قلت يا عمنا الشيخ هيه اللي كلمتني وندهتلي
نادى وقاللها يا بنت يا حكام
ياللي ما صار عليك في البلد قاضي ولا حكام
قالتلو اخرس يا بويا لصبحك في دين الحكام
كل ما حد يجيلك يابا تقول البنت قاصر وأنا بالغ
وكل ما حد يجيلك تتقل المهر وتقول حطوه مبالغ
هجرتني يا بويا الله يوعدك بالهجر
نشفت عودي وخليت حسن عقلي راح
إذا كنت ما انتش قارص عليه بالجواز قارص
لكنت أضحك وألعب وأقول أنا اللي لي في البلد فارس.
التمثيل بالشخصيات التاريخية والأسطورية
وكثيرا ما تفيض هذه الأشعار الغنائية في التمثيل بالشخصيات التاريخية والأسطورية والخرافية، سواء حينما تستشهد بجلدهم وصبرهم على الشدائد والكوارث والمحن، مثل: أيوب وزوجته المحبة ناعسة، ومثل نوح وزوجته - برها - التي انساقت لغواية الشيطان، بل هي التي توحدت به في تخريب فلك نوح - 31 مرة. وصالح الذي كان غريبا مضطهدا في قومه ثمود، كما ذكر المتنبي: «غريب كصالح في ثمود»، إلى أن دمر ثمود انتقاما هي وقراها الخمسة.
وهو ما يمكن أيضا تواجده في الفولكلور الأوروبي بعامة، منها أغاني الملك كنوف على ضربات المجاديف للماء، وأغاني الكهنة المنشدين، وأغاني عمل النساء اللائي يطحن بالرحى - كما اتفق على تسميتها كتاب العصور الوسطى - وأشهرها أغنية تحكي معاناة الملك بيتاكوس الذي قضي عليه بأن يمضي بقية عمره يطحن بالرحى.
مثلما حدث وتمثل في أغاني «سعده» ابنة الزناتي خليفة، قائد جيوش تونس حين اغتاله خصمه - الحميري القحطاني - دياب بن غانم - الزغبي - وكان يعشق سعدى، التي كانت تحب بدورها مرعي، فكان أن سجنها دياب تطحن الرحى، وترتدي ثياب الخيش حين رفضت حبه.
ولعل السيرة الهلالية أن تكون من أبرز السير والملاحم العربية، التي استقلت عنها أعمال قصصية وشعرية من نوع البالادا، كما لم يخل الأمر من المواويل التي استقلت بدورها عن هذه البالادا، تصوغ مدى عشق عزيزة ليونس، وسعدى لمرعي، وعالية لأبي زيد الهلالي.
منها الموال التالي الذي يتحدث عن عزيزة ابنة سلطان تونس «معين بن باديس» التي عشقت عدو أبيها وبلادها يونس، ابن السلطان حسن، ابن سرحان الهلالي، سلطان الهلالية الغازين، حين تحايل فرسان الهلالية الثلاثة: «مرعي، ويحيى، ويونس» حين ريادتهما لاستكشاف تونس «مع خالهم» أبو زيد الهلالي، واضطرارهم لبيع عقد ثمين من الجوهر لعزيزة عن طريق دلال ظل يفاخر بجمال يونس وفضائله أمام عزيزة:
آه يا ستي لو شفتيه
وشفتي طولو مع معانيه
تفوتي قصرك باللي فيه
واسمك الغالي نسبوه.
فكان أن تحركت لواعج عزيزة نحو يونس، كما يصفها هذا المأثور التالي:
وقفت عزيزة في ريح القصر وربحانه
وقالت يا دلال صاحب العقد روح هاته
يا بخت من حدى بوصلك يا يونس في السنة مرة
يسود شعره، وتحلى عيشته المرة
ولما قالوا لعزيزة دا يونس في الشجر بره
نزلت تهز إليلك وتقوللو كنت فين سلامات
ومن ابتلى بك يا يونس، طج
1
وانسلى مات
خدتو عللى الصدر حوا القصر وراحاته.
لمتوني
بكيت زليخة وقالت:
عشت في الذل لمتوني
ف حب يوسف يا بني يعقوب لمتوني
عمت عزومة زليخة ودبحت ميتين كبش، ومن الغزال ستين
إلا وجولها البيض في أوان عصر
ومالوا وقالوا لها، فين يا زليخة
اللي عليه البيبان ساكين
ما فتحت زليخة الباب ليوسف ما خرطت يدهم سكين
قالت آهو يا مساكين، اللي عليه لمتوني.
وزليخة هي امرأة العزيز، ويوسف هو النبي يوسف. والموال هنا يدور حول جمال يوسف وحسنه، ويؤكد الخرافة الراسخة عند الفلاحين التي تقول إن الخطوط المتقاطعة الموجودة في داخل كف اليد تأثير انبهار النساء - البيض - الذين عزمتهم زليخة وأحضرت لهن التفاح والسكاكين، وعندما شاهدن يوسف بهرن من حسنه، فنسين أنفسهن، ومضين يقطعن بالسكاكين من كفات أيديهن بدلا من التفاح!
فقالت لهن زليخة شامتة:
آهو يا مساكين اللي عليه لمتوني •••
درغام يقول للخفاجا:
يوم غرب النجع ياما بكى درغام
وقال بيض الليالي مضت، واللي بقى صار غام.
2
رايح تغرب يا بو دوابه
3
وفايت لصطبل والخيل فيه، بكى درغام وقال:
بيض الليالي مضت، واللي بقى صار غام
بكر الصجر راح، ما عادت تنفع الخلفية
4
ظهر سبع في الغرب سموه الرجال خلفية
5
ساعة يسمع الطبل، ييجي مألوب كما درغام.
بكت بنته دوابه وقالتلو:
يابا أنا شايفة عينك ع السفر هتزول
درغام أبوك كبر، وأمك شولة عقلها هيزول
الغربة تربة بابا، تقل الأصول وتزول
ما قال بطلي يا دوابة، مع الناس دول هنروح
زيدان عمل فيه طوله،
6
وصاحبي بالروح
مكتوب على باب تونس، قايمة في اللوح:
تفنى الخلايق، وكل العباد هتزول.
ممارسات وأغاني الزواج والإنجاب
وبقدر ما تلتقي دورة طقوس الانفصال والغياب بالموت عند معظم شعوبنا وكياناتنا العربية، وما يتبعها من أغاني وتراتيل جنائزية مصاحبة لنوعية الميت وجيله وصيته، رجلا ذكرا كان أو امرأة أنثى، أو عروس «بكرية» لم تتزوج.
فطقوس الانفصال هنا هدفها حماية الأحياء، بتسكين روح الميت أو المتوفى، وبعث أكبر قدر من الطمأنينة والأمن، لكلا «روح» المتوفى وذويه.
كذلك تلتقي الأغاني والأهازيج والموشحات المصاحبة لدورة الحياة وطقوس تجمعها بالزواج والإنجاب داخل رقعة فولكلور شعوبنا العربية إلى حد التوحد.
بل إني أتفق مع الباحث الفولكلوري العراقي لطفي الخوري في أنه لا اختلاف كبير في «الأسرة العراقية وتقاليدها العامة المتعلقة بالزواج عن بقية الأسر في الأقطار العربية»
1
سوى في بعض التفاصيل التي تفرضها البنية السكانية، وكذا القرابية والبيئية، بالإضافة طبعا للقسمات الدينية التي تشكل الوطن العربي، من مسلمين وأقباط مصر، ونساطرة العراق، وموارنة لبنان وسوريا العليا.
إلا أن القاسم المشترك لها يتمثل في كونها طقوس «انتقال» تجمعية قوامها الاحتفالات الدنيوية البهيجة، وما يصاحب أغانيها من صلوات الشكر في الكنائس - كما يدخلها كراب.
فطقوس
2
الانتقال المصاحبة للزواج والميلاد لا تخلو على طول الوطن العربي من جذورها الأولى السحرية، والطوطمية، والقبائلية. بدءا من استخدامات رش الملح الجماعي، كممارسات لسحر المشاركة، والتزين، والزغاريد، ودق النواقيس، والأصوات العالية، والأعيرة النارية التي هدفها طرد الأرواح الشريرة، وشرور العين وإشاعة الأمن على العرس، وذروته هنا هما العروسان.
ومرورا بالزواج بالأقارب، أو الزواج «الاتصالي» الأسري القرابي القبائلي. بل إن في تقاليد واحتفالات الزواج والإنجاب والأغاني والأشعار والممارسات المصاحبة لها على طول الكيانات العربية؛ أرضا خصبة حقا بالنسبة لدراسة نسق أو منطلق جوهري أو استراتيجي لتراثنا العربي بكامله، وهو النسق القرابي القبائلي، الذي يتبدى بكثرة ملحوظة إلى أقصى مدى في تراثنا الفولكلوري العربي بعامة، بخاصة فيما يصاحب الزواج ومراحل انتقالاته، لا فرق كبير فيما يجري في دلتا الرافدين، ومصر، وفلسطين، أو المشرق العربي والسودان.
من ذلك الكثرة الموسمية للزواج ومراسمه، التي عادة ما تجيء في نهاية موسم الحصاد، وجمع الغلة؛ لدفع المهر، أو وحدة مهر العروسة التي كانت في الجاهلية تحدد وحدتها النوق أو الجمال، وعرف إلى اليوم بزواج المهر، تمييزا عن زواج «السفطة » لشمال العراق، و«الفصل» في وسطه، ثم «عقد النكاح».
لحين الحنة أو ليلة الحناء، وما يصاحبها من أغاني الفتيات المراهقات، الكاشفة في معظمها عن محرماتهن وتابواتهن، في الحب والجنس والزواج - كما سيرد بكثرة في مأثوراتنا القادمة عن أغاني الحناء.
كما إن في دراسة أغاني وممارسات الزواج والإنجاب، وما يدور في فلكها من شعائر وخرفات تفصيلية، منها ما يتصل باستخدامات نباتات، بل وعطور ووحدات تشكيلية بعينها، وما يتصل بافتعال العراك والعنف والمشاحنات لحظة خروج العروس بزينتها من بيت أبيها، أو في حالة تخطيها للمرة الأولى عتبة بيتها - الزوجية - الجديد.
وما يتصل بشعائر تقديس عتبات البيوت، التي ترجع جذورها في التراث الأسطوري والفولكلوري السامي إلى ما قبل الألف الثانية ق.م.
مثل سكب الماء، وأحيانا الملح على العتبات، وكذا التوسع في استخدامات النباتات الخضراء، كالنعناع وسعف النخيل، توسلا بسحر الشبيه - الذي ينتج الشبيه - أو الشبشبة، بدءا من خرق الحيص، وحرق وغز رسوم العوازل والأعداء والحاسدين.
وكذا شعائر انتقالات «أوض» أو حجرات النوم أو الدخلة، وأخذ الوش، ودور الداية أو القابلة بتعريف العروسين، ودفع الفكة.
من نقود للداية أو العروس، وأغاني أخذ الوش - أو فض البكارة - التي عادة ما تجري على مشهد من الداية، باستخدام الأصابع وعليها «المحرمة» الحريرية البيضاء، وإشهارها بالأغاني عبر البلدة أو الجع «قولو لابوها إن كان جوعان يتعشى».
بل هي مادة خصبة للمزيد من تكشيف وضع المرأة وإدانتها «الأسطورية» الأولى، منذ أساطير الخلق الأولى لحواء، وخلقها من الضلع السادس للرجل، المنحدرة منذ السومريين - 5 آلاف عام - وتبديها بكثرة في التراث الشامي، أو الكنعاني، لحين سفر الخلق أو التكوين، الأول والثاني.
وكذلك ما يدور حول أشهر الحمل التسع، وممارسات حيض النساء «بالوجع تلدين أطفالا» وكذا سيادة الرجل الذكر على الأنثى، والسبب في أن الكذب يسود الوجه، وكذا أفكار وتعويذات مثل: الخمسة وخميسة، العين الحاسدة، النفس الخالق، والعائن أو المعيون أو النفس الخالق.
فمع استمرارية أبنية أنساق المجتمع، تظل هذه الظواهر والموروثات تواصل توالدها الذاتي، بنفس ما يحدث في الأساطير والملاحم والحكايات والأمثال، بل والنكت والأسماء والأحاجي، أو الحذور
3
والأدعية من سالبة أو موجبة.
وجميع هذه الأبنية التي كانت المدرسة الأنثروبولوجية بريادة آرثر تيلور وتلميذه أندرو لانج أول من أشار إليها، فتعاظم دورها فيما بعد لدراسة الفولكلور، وأخصه ثالوثة الأزلي، وزواج وموت.
ومن هنا يمكن القول بإسهام جيل الفولكلوريين الأنثروبولوجيين في المساهمة إلى المنهج البنائي، الذي غرضه النهائي الإلمام الموضوعي لمختلف جوانب الظاهرة، مع إلغاء الحواجز التقليدية بين مختلف النظم والعلوم، وتكوين منهج يعتمد على كل العلوم والدراسات، بل إن للباحث البنائي الحق في التعرف على مستويات الحقيقة أو الظاهرة التي لها قيمة استراتيجية من وجهة نظره ويعزلها.
فمهمة الباحث الفولكلوري لا تقف عند مجرد جمع النصوص والكشف عن مصادرها وأصولها، بل إن مهامه تسجيل ما يحيط بها من ظواهر وأبنية مختلفة من اقتصادية، وقرابية، ومهنية، بالإضافة إلى ما تعكسة هذه الأبنية في مجموعها من شعائر وسلوك قد تبدو لغير البنائيين غير ذات أهمية. من ذلك مثل ممارسات واحتفالات وأغاني الزواج والميلاد، وتربية الأطفال وتنشئتهم، وكيفية التعامل مع المرأة؟ والمراهقين، والشيوخ، انتهاء بالعلاقات الأساسية والمتغيرة بين شخص وآخر.
فمثل هذه النظرة المتكاملة أو البنائية تصبح أكثر فائدة وأكثر اقترابا من معرفة الظاهرة أو الحقيقة، وتكثيف الموضوع العيني للبحث سواء في شعائر - انتقال - التعامل مع المرأة والطفل، والأب الذكر، أو مثلث العائلة الخالد، كما سماه للمرة الأولى ريموند فيرث.
وعلى هذا، فإذا ما اتفقنا على أن الملمح الرئيسي لفولكلور وأساطير منطقتنا العربية أو السامية هو أنه فولكلور قبائلي، وحدته وجوهره القبيلة، ويعبر عن ذلك بأنها مجموعة من الناس لها بناء اقتصادي محدد، ينتج عنه بناء ثقافي متكافئ، أو لنقل: متواز.
وإذا ما عرفنا أن من أهم الأساسيات التي تقوم عليها المجتمعات البشرية مبدأ القرابة أو سلسلة راوبط الدم أو الزواج؛ أي نسق الروابط الاجتماعية القائمة على الاعتراف بالعلاقات الجنيالوجية، أي العلاقات الناتجة عن الارتباط الجنسي الشرعي وإنجاب الأطفال، كما يحددها ريموندفيرث الذي يرى بأن النسق القرابي يتحكم «حتى في الأوضاع الاقتصادية والسياسية ».
وإذا ما عرفنا أن القرابة شيء أساسي لكافة المجتمعات البشرية؛ فما بالنا بالنسبة لفولكلورنا العربي القبلي، فالقبائلية هي الملمح الجوهري لفولكلور وأساطير وتراث منطقتنا العربية - السامية - بعامة، المحاط إلى اليوم بسياج قوي من الأنيمزم - أو الروحانيات - كما أسماها تيلور منذ أواخر القرن الماضي.
وعلى هذا، ففي دراسة بنية أو نسق القرابة والانتساب على مستوى المنطقة العربية أو السامية في مجملها، وعلى أدنى الافتراضات داخل كل مجتمع عربي أو سامي، أو البدء من منطلق الجزئي بهدف المعرفة والاستيضاح الكلي، وبمعنى أبسط، يمكن القول بأن في الإمكان التوقف طويلا أمام تقليد العرس العربي؛ تصرف الأقارب، وكذا ممارساتهم، تبعا لشعائر الانتقالات التجمعية المصاحبة للزواج والإنجاب، أو ظاهرة النعي العلني الذي نشهده في صحف موتانا صبيحة موت المرحوم، وكيف أن الميت ينتمي إلى عائلة كذا، ويتناسب مع عائلة كذا من حيث الأم، وكذا من حيث الأب، وكذا من حيث - ميكانزم - التزاوج العائلي من داخلي وخارجي.
في دراسة مثل هذه الظاهرة أو النسق انفتاح على بنية كاملة، ووصلت العلوم الأنثروبولوجية في دراستها لهذا النسق أو البناء القرابي سواء على المستوى البدائي أو القبائلي في مجتمعات العالم خارج الغرب خاصة أو أستراليا وأمريكا اللاتينية، أو داخل المجتمعات الغربية المعاصرة؛ وصلت إلى حد من الدقة الرياضية. فمثل هذا النسيق القرابي مثل بقية الأبنية الاجتماعية في تساندها الوظيفي من الاقتصادية والسياسية، بل إن في دراسة أي نسق أو بنية اجتماعية على حدة خاصة أضلاع هذا المثلث التي تتحكم في المجتمع - أي مجتمع - من قرابية واقتصادية وسياسية، والتي لا تحقق غايتها إلا في تساندها مع بقية الإنسان.
فدراسة أي نسق لا يصح أن تجري بمعزل عن بقية الأنساق والأبنية التي تؤلف البناء الاجتماعي كنسق متكامل هدفه تحقيق التساند الوظيفي والطبقي، وهو ما عرفه دوركاييم بالتركيبات المورفولوجية، وعرفه ماركس بالتركيبات السفلى والتركيبات العليا.
ومن السهل تصور أن التركيبات العائلية - بل لنقل القبائلية - تتبدى بوضوح في «نص» نعي الميت من تشابك أو اتصالات عائلية أو قبيلية، أو بدنته أو فخدته، أو بقية الأعضاء العائلية بما يقود إلى شجرة العائلة - أو نخلتها - عند العرب الساميين.
هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن في دراسة البناء القرابي في علاقاته المتبادلة مع بقية الأنساق تبصيرا بالبنية الطبقية الاقتصادية والسياسية - كما قلنا.
ومن هنا فليس مدخلنا إلى دراسة النسق القرابي المصاحب لشعائر وأغاني الانتقالات الجوهرية - الميلاد، الزواج، الموت - أو من المهد إلى اللحد على مستوى العالم العربي أو المنطقة السامية، بهدف التوصل إلى نتائج عنصرية، أو إزكاء النعرات القبائلية الطوطمية في معظم حالاتها.
وهو ما تتوسع فيه الدراسات العبرية اليهودية، ربما بإيقاع قرن إثر قرن منذ كوزمولوجي سفر التكوين - أصحاب 4 - بدءا بآدم أبي البشر «يوم خلق الله الإنسان على شبه الله عمله».
بل لقد ظل نسق القرابة متواصلا داخل التراث العبري متواترا، وتصر على تدعيمه وإحيائه كثير من القبائل الاثني عشر العبرية الأولى، ومرة ثانية من مدخل تنشيط دراسات نسق القرابة، وعلى مستوى بلداتنا العربية بهدف استيضاح البنيان الطبقي والقبلي، لا بهدف التوصل العنصري المفضي بالضرورة إلى الفاشية، ستوقفنا مثل هذه الدراسات على واقع بنياننا السكاني والاجتماعي.
فليكن الهدف هنا هو الدخول إلى أخذ ميادين العصر الكبيرة وهو ميدان الاتصال.
فكما يقول ليفي شتراوس: «يجب أن تخضع دراسة القرابة والزواج لبعض المناهج التي تنبع مباشرة من نظرية الاتصال.»
ولعل الملمح الأساسي لتقدم الأنثروبولوجيا الاجتماعية منذ القرن الماضي كانت زيادة الانتباه إلى البناء أو النسق القرابي، ويرجع هذا التقدم إلى عبقرية لويس مورجان في كتابه الرائد في هذا الميدان عن «أنساق روابط الدم والمصاهرة في العائلة الإنسانية» عام 1871، وأسهمت هذه الدراسة في وضع أسس الدراسات الأنثروبولوجية والقرابية، إلى أن اكتملت هذه الدراسات في علوم الاتصال، ثم ما تلا ذلك من جهود العلماء الاجتماعيين في هذا المجال البكر، مثل: لومي عام 1948، ومردوك عام 1949، وسبوشر عام 1950، ودراسة العالمين الكبيرين راد كليف براون وفورد، وجميعها بالطبع تعتمد اعتمادا كبيرا على الدراسات الميدانية، أي التوسع في جمع المعلومات والبيانات، وهو ما نطالب به بالنسبة لقيام مثل هذه البحوث في مصر والعالم العربي، على أن تجيء مثل هذه الدراسات مستهدية ومرتكزة على الجهود الضخمة التي بذلت منذ مطلع هذا القرن، والتي يرى ليفي شتراوس أنها لم تثمر كما يجب رغم غزارة مواردها وبياناتها الأنثروجرافية المتصلة باختبارات الزواج وأنماطه من داخلي وخارجي، ومن أبوي وأموي، بالإضافة إلى كيفية تنظيم العائلات والعشائر والقبائل، وبقية النظم والمعتقدات الطقسية والدينية واللغوية، بل ويمكن القول بأنه حتى لعب الأولاد، أو نظرة الألعاب التي كان كروبير أول من لفت الأنظار إلى أهميتها عام 1943، فساعد أكثر في إيضاح النسق القرابي.
ومن المفيد الإشادة بالدور الذي أصبحت تلعبه بعض الدراسات الميدانية لهذا الفرع.
وقد يكون للدور الكبير الذي لعبه راد كليف براون بشكل خاص بالنسبة للدراسات البنائية في عمومها، وبالنسبة للنسق القرابي خاصة؛ أهمية جديرة بالتوقف عندها، ففي دراسته الميدانية، ومنهجه في التصنيف بالنسبة لنظم القرابة في أستراليا، أو في اكتشافه للقوانين المتحكمة في نظام القرابة عند قبائل كاييرا، والتي كما يقول شتراوس: «ستبقى إلى الأبد واحدا من أعظم النتائج في الدراسات الاجتماعية البنائية 1930-1931.» اعتبرت مقدمة براون الرائعة لكتاب «أنساق القرابة والزواج في أفريقيا»؛ خطوة متقدمة نحو إخضاع نظم القرابة في العالم الغربي لنظرية عامة في التأويل على مستوى عالمي. كذلك دراسته المتفرقة عن مصطلحات القرابة وسلوك الأقرباء: السلوك المصاحب لأطوار العمر الثلاثة من ولادة وموت وزواج، كيف تتصرف الأم والأعمام والخالات خلال زواج ابنة أو طلاقها، أو موتها أو حملها ... إلخ.
السلوك المصاحب لعادات الاقتتال والثأر، أو المصاحب لتصرفات الأسرة والعشيرة في حالات مولد الإناث أو الذكور، وزواجهم أو زواجهن.
ففي أهمية دراسة السلوك داخل النسق القرابي، كما يقوي أولى ما يشير، ويكشف عن جوهر النسيج الاجتماعي، مثل ملاحظة ظواهر التزاوج الخارجي - وارتباطه من جانب آخر بظواهر وسمات محددة. مثل: تأثير مكان الإقامة أو الحقل الميداني موضوع الدراسة سواء أكان قرية أو مدينة، أو كانت بيئته بدوية أو زراعية على البنوة، وعلى عادات المباح والمحظور من التزاوج والعلاقات الجنسية.
ولقد اعتبر شتراوس أن من أغراض نظم القرابة وقواعد الزواج التي يسودها تناسق وظيفتها في اتجاه حفظ بناء الجماعة عن طريق الربط بين علاقات كلا الدم وعلاقات المصاهرة، بل ومن أهدافها إخراج النساء من العائلات التي ينتمي إليها برابط الدم، وإعادة توزيعهن على جماعات أخرى.
ففي رأيه أن النساء في أحسن حالاتهن أحد مستويات الاتصال، وعلى ذلك فمن الزواج إلى أبلغه يمر المرء من سرعة اتصالية منخفضة إلى سرعة اتصالية مرتفعة.
كذلك يتمكن راد كليف براون أن يصل في دراساته إلى وضع مصطلحات أو قوانين لها عموميتها، ولها ميكانيزماتها المحددة، سواء بالنسبة للزواج والاحتفالات، وسلوك أبناء العمومية في المجتمع الذكوري، وأبناء الخالات في مجتمع أموي، وكذا أوضاع الحموات وأقارب الزوجة والعكس.
ويتفق براون مع مالينوفسكي في أن الروابط البيولوجية وروابط الدم هي في ذات الوقت الأصل الأنموذج لكل نمط من أنماط القرابة، وإن كان لم يرفع نظرية القرابة إلى مستوى نظرية الاتصال كما فعل شتراوس.
إلا أنه يتفق مع ماكلينان ومالينوفسكي في أن «تنظيم العائلة الذي يسود فيه حق الذكر في كل مكان قد تم بفعل قوة أساسية هي حق الملكة.»
وبالنسبة إلى البناءات الطبقية، وصكوك الملكية، ونظم التوريث، وعلاقتها بالبناء القرابي والمصاهرة؛ فإن الأمر يصبح أكثر وضوحا، فكما يقول وارنر، فإنه «من المستحيل في بعض الحالات أن ينتمي أي فرد تلقائيا لطبقة معينة.» ووصل الأمر بلوبد وارنر إلى حد أنه افترض أن الأهالي يدركون ويفطنون إلى العلاقات البعيدة جدا بالنسبة لنظام القرابة، داخل أنموذج أو طراز «مورنجن» الذي انتهى به إلى علاقات رياضية، أو قوانين أثارت الكثير من الجدل، كنظام محقق لحاجات ومطالب الزواج والنظام الطبقي، على اعتبار أن أولهما في خدمة الثاني. •••
وفي حالة التوريث يمكن الرجوع إلى فكرة الفصل بين الأبوة البيولوجية والأبوة الاجتماعية، كما حققها إلى حد الحسم مالينوفسكي خلال دراسته الميدانية على بعض قبائل أستراليا، وسكان جزر الشروبرياند في غينيا الجديدة - قبل أن تحقق انقلابها الثقافي الحضاري الأخير - حيث إن الرجل لا علاقة له بإنجاب الأطفال، ولا يعتبر أبا، بل مجرد زوج للأم، كل دوره هو أن «يحمل الطفل بين ذراعيه»، ويرعاه ويحميه، ومن هنا لا يرث الابن أباه، بل إن وريث الأب هنا يشترط أن يكون ابن أخته؛ فالتوريث يتم عن طريق سلالة الأم، وبذلك يرث الرجل خاله وليس أباه، كما إنه يورث أولاد أخته وليس أولاده.
كذلك لاحظ مالينوفسكي وغيره داخل هذه المجتمعات الأمومية أن في مقدور أي فرد أن يذكر سلسال انتسابه الأموي حتى الجيل الثالث عشر، دون أن يحفظ ويتذكر أكثر من ثلاثة أجيال أبوية.
4
ويمكن القول بالنسبة لعالمنا العربي إن كل التوريث والانتساب للجدد يسير في خطين، صحيح أن السلطة للرجال في هذا المجتمع الذكوري، إلا أن الجنة تحت أقدام الأمهات، إلا أنه من حيث الميراث والتوريث يسير في خطين.
وكان لريموند فيرث سبق التوصل والتبصير بهذه الطريقة الثالثة، التي لا هي بالأبوية الذكورية، ولا هي بالأموية الأنثوية، وإنما هي تجمع بين النظامين، وعرفها فيرث بالقرابة من الأب والأم. كما يمكن تتبع ملامحها عبر مختلف الطرق والأبنية أو المداخل من لغوية، واقتصادية، أو قرابية تتصل بالميراث والتوريث، بالإضافة إلى رواسب نظام التابو والطوطمية.
ومن المفيد هنا الإشارة إلى أنه من الصعب علينا كمجتمعات عربية أبوية تصورنا لإمكان استمرار مجتمعات أخرى كثيرة مخالفة يتم نقل السلطة والامتيازات فيها عن طريق الأم أو السلسال الأموي، وهو ما يحدث فعلا عند كثير من الشعوب، خصوصا البدائية في ملانيزيا، وشمال أمريكا، وقبائل وسط أفريقيا، وشمال روديسيا، وكثير من الولايات الهندية، وجزر الهند الشرقية عامة.
وتذكر مسز ودري ريتشاردز التي سجلت دراساتها الميدانية الأنثروبولوجية داخل قبائل البامبيا في شمال روديسيال أن الحكومة العنصرية شجعت عن طريق الإرساليات منع انتساب الشبان إلى أمهاتهم، وتشبها بالأقلية الإنجليزية عليهم أن ينتسبوا لآبائهم.
كما أن رحيل الرجل للعمل في مناجم النحاس قضى على عادة أو نسق مبدأ إقامة الرجل في موطن زوجته، وحتمية أن يجيء من قريته الأصلية، وهي المكان الذي ولدت فيه أمه وأخواته.
كذلك كان لفيرث سبق الريادة في دراسة نظام أو نسق الزواج بأكثر من زوجة واحدة، وهو النمط الشائع في العالم الإسلامي والصين وأجزاء كثيرة من أفريقيا، خاصة الأوقيانوسية.
وسجل ملاحظاته على النحو التالي: بأن مثل هذا الزواج عادة ما يمارسه الأثرياء، وهم عادة رجال تخطوا الخامسة والأربعين.
كما أن من أسبابه الإشباع الجنسي لا على اعتبار أنه مجرد شهوة، ولكنه إشباع لما يمكن اعتباره رغبة طبيعية، بالإضافة إلى ما يتصل بالمحارم الجنسية، وتابو تحريم ونجاسة المرأة بعد الولادة الذي قد يمتد لعدة شهور، ويستلزم منع الاتصالات الجنسية بها.
بالإضافة إلى علاقة تعدد الزوجات بارتفاع عدد الإناث عن الرجال، وبالأسباب الاقتصادية، وهجرة الزراعة، وزيادة القوة المنتجة، وارتفاع صيت الرجل، فالعائلة المتعددة الزوجات هي عبارة عن عدد من الأسر الصغيرة المتميزة، والتي يكون فيها الزوج - أو الأب الذكر - ملتقى عدة مثلثات لها أب واحد مشترك في موقع الجد السالف، وداخل مجتمعات تقدس وتعبد السلف والسلفية.
ولعل ما أوردناه عن أهمية دراسة نظم وممارسات القرابة عبر ظواهر دورة الانتقالات المتصلة بالموت والميلاد، والزواج واحتفالاته، وما يصاحبه من أغاني ومواويل، لا يبعدنا كثيرا عن حاجتنا إلى جيل مبشر جديد من الفولكلوريين الأبنوغرافيين.
وحيث لا يقتصر دور باحث الفولكلور عند جمع وتسجيل ودراسة نصوصه الميدانية بمعزل عن أبنيتها الثقافية المتوارثة أو المتواتره، وأخصه هنا ما يتصل بالبنية القرابية، وكذا التابو ودوره وأنساقه، وهو ما سنتعرض له في الفصل التالي.
التابو وظواهر العرس العربي المختلط
وإذا ما انتهينا من ممارسات وظواهر انتقالات الزواج تمهيدا لتقديم ما يصاحبها من مواويل خضراء - فرحة - وأغاني للوقوف على كيفية تحكم القرابة الطوطمية في تقاليد وروابط - اتصالية وطبقية - للزواج، ولإيضاح كيف أن مثل هذه الاحتفالات، وما يعقبها من إنجاب للأطفال، وبالتالي ممارساتهم وأغانيهم؛ اعتبرت على الدوام مجالا وحقلا مخصبا للملمح القرابي والقبائلي لفولكلورنا العربي، بالإضافة إلى بقية الملامح التي تحدد خصائص رقعة فولكلورنا المتوجدة لكل من يتكلم العربية وشقيقاتها من عبرية وسريانية، من ذلك التابو - أو المباح والمحظور - الذي لم تعد دراسته قاصرة على الاجتماعيين والأنثروبولوجيين بأكثر من الفولكلوريين.
والتابو يشمل على حالات وممارسات المنع والتحريم والتجريم لحالات بعينها، بدءا من شعائر الطهارة والنجاسة، والبدء والنهاية، وأخذ الوش والطهارة؛ وعليه فدراسته لا تبعد بنا عن موضوعنا حول أغاني وممارسات الزواج والموت والميلاد.
لذا فالتابو يجد بالطبع أرضه الخصبة الجديرة بكل ملاحظة وتدوين ودراسة خلال شعائر الانتقالات الكبرى من «المهد إلى اللحد»، أو الولادة والزواج والموت، التي تراعى بكل دقة، وفي الخروج عليها مروق يستلزم في بعض الحالات العقاب والطرد، بل القتل.
فمنذ أن دخل تعريف أو مصطلح تابو أو تفوه
Tafoo
إلى اللغات الأوروبية، فاستخدمه كتاب عصر التنوير أو القرن 18، ومنهم جان جاك روسو.
إلى أن شغلت فيما بعد دراسته عديد من المشتغلين
1
بالعلوم الاجتماعية أو الإنسانيات زمنا طويلا، وهل المقصود بالتابو هو إتيان أفعال مباحة أو مقدسة، والإقلاع والامتناع عن أفعال أخرى محرمة أو ممنوعة، أو ما يتصل بكلا الحلال والحرام مثل: لمس أشياء، أو الذهاب إلى أماكن بعينها، أو حتى مجرد النظر أو الشم أو السمع إلى أشياء أو جهات مثل: القبلي، أو منازعات أو حروب
2
بعينها؟
والملفت أن مكتشفي القرن 17 للعالم خارج الغرب مثل الرحالة كابتن كوك وغيره قد تحرجوا في المطابقة بين التابو وبين المقدس؛ وذلك لملاحظتهم أن النظام الذي يحدده التابو يتصل بمعاملات وممارسات الرجل ابتداء من الجنس حتى عادات الولادة وتربية الأطفال، وعادات الطعام، كأن لا يسمح لشخصين بالأكل معا على مائدة واحدة، وكذلك لا يسمح للمرأة مشاركة الرجل طعامه بنفس ما كان يحدث داخل مجتمعاتنا إلى أيامنا هذه.
والملفت هنا أن تحريم أكل المرأة مع الرجل عندنا يجيء على اعتبار أن المرأة - هنا من بلداننا - ما هي - بدورها - إلا حريم أو حرام أو محرمة، وهو ما يطلق على طريقة أخذ الوش والبكارة في ليلة الدخلة، وما يصاحبها من أغاني وممارسات، وسيرد العديد من أنماطها.
فعدم مشاركة المرأة للرجل الطعام بل والكثير من الأفعال مرجعه - كما سبق أن أوضحنا - أنها مدانة، وأقل منزلة منه، كما يتبدى في أساطير الخلق والخطيئة والسقوط العربية والسامية، أما بالنسبة لتلك المجتمعات البولدانزية، فالتابو يتبدى كمؤسسات راسخة، فزارتهم عشرات البعثات المتعاقبة لدراسة أنشطة حياتهم وشعائرهم الدينية التي يقيمها ويتحكم فيها التابو، فحتى المعاملات اليومية من تجارة واستثمار وعمل أخضعت لنظام التابوات المتوارثة السائدة.
وما إن تجمعت المواد الميدانية أو الخام التي جمعها الرحالة والمبشرون في القرن الثامن عشر لدى الدارسين الأوروبيين حول ظاهرة أو النسق البنائي للتابو في تسانده الوظيفي، وعلاقاته المتبادلة مع بقية الأنساق مثل البناء الاقتصادي والسياسي والقرابي حتى نشطت حركة دراسات ملفتة حول هذا النسق داخل مختلف المجتمعات خاصة مجتمعاتنا العربية، سواء في غرب آسيا أو الشمال الأفريقي، أو بالنسبة للغات السامية وأخصبها المعاصرة العربية - والعبرية - أو على مستوى الممارسات والنظم الاجتماعية والسياسية، ودورهما في حماية الملكية والميراث والتوريث ... إلخ.
فعن طريق الاستطراد في دراسة مختلف الأنشطة والممارسات والتصورات التي يحكم ناصيتها التابو داخل هذه المجتمعات أمكن التوصل إلى أن الكثير من مختلف العادات والممارسات التي ما تزال تواصل سيطرتها على مختلف أنشطة الذهن والمخيلة البدائية عند مختلف القبائل والشعوب - خاصة في عالمنا العربي - مثل طرق القسم - أو الحلفان - سواء بالآلهة أو الموتى أو الأشياء والأماكن المقدسة، ومنها أجزاء الجسم البشري مثل: الشعر، والعينين، والفرج، والنصوص مثل: الدعاء والتوسل بحلول الكوارث والمصائب بالآخرين والأعداء، ثم عكسه أو نقيضه الذي يهب الرزق والبركة، وهو ما كان يحدث بكثرة مفرطة، وعلى مستوى مختلف مؤسساتنا في حروبنا الأخيرة مع - الأعداء - مثل: الفرنسيين، والإنجليز، بل واليهود في أيامنا هذه.
بل إن دراسة طرق وقنوات التابو كشفت عن أن الكثير من نفايا الممارسات السحرية التي ما تزال تواصل سريانها خاصة خلال انتقالات أو احتفالات الدورة الثلاثينية الرئيسية للميلاد والزواج والموت، مثل: الشبشبة، والكلمات السحرية، وحرق وإحراق وإفساد تماثيل العوازل والأعداء الورقية والطينية، والمصنوعة من العجين ... هكذا.
بل إن متنوعات التابو شملت كيفية التعامل مع المواسم المختلفة والشهور وأيام الأسبوع السبعة، وما يصاحب بعضها من مصنوعات السبت عند اليهود، والأحد عند المسيحيين، والجمعة عند المسلمين. الذي به ساعة نحس، أو هي تابو بدورها.
فيلاحظ أنه على الرغم من أن الالتفات للتابو لم يعرف فيما قبل العصر الفيكتوري بالنسبة للمجتمعات الأوروبية إلا أن الالتفات إليه واصل سريانه داخلها حتى فيما بعد الثورة الصناعية، فكثرت التساؤلات حول ما يتصل بتابوات الطهارة والنجاسة والجهات والجنس، وما يتصل بالأكل والطهي، وإباحة أطعمة لحوم وبقول وأسماك وخضروات بعينها، والإقلاع عن أخرى، وكذا ما يتصل بالدم ورءوس الحيوانات والطيور واللبن، والنصوص المتواترة بالحفظ والأنيمزم.
بل هو أيضا تحكم في مخيلة الطبقات الشعبية الأوروبية، ويمكن القول بأن العصر الفيكتوري كان واقعا بدوره تحت تأثير الذهن التابو ... فكانوا ينظرون للمريض على أنه جريمة أو خطيئة، وقالوا بأن «المريض مكانه السجن.» •••
وبالنسبة للمرأة يشمل تابو مجرد النظر لها كمحرم - أو عورة - عند مجمل الشعوب الشرقية، إلى حد رفض «الأنثى» في مطلقها العام كنوعية، وهو ما عبر عنه في الأخوة كرامازوف بطل ديستوفسكي، الأب الرافض «فيدور بافلوفنش» في حديثه التهكمي مع الراهب: «هل تعلم أن زيارات النساء في - دير - جبل أتوس ليست وحدها ممنوعة؟ وإنما يمنع هناك أيضا وجود الإناث من أي نوع من أنواع الحيوان، فلا دجاجة ولا أوزة، ولا أية عجلة صغيرة يمكن أن يحتمل وجودها هناك.»
ولعل أخطر التابوات عندنا - في مصر والمنطقة العربية - هو ما يتصل بالمرأة والجنس سواء على مستوى الرجل بالمرأة أو الرجل بالرجل أو المرأة بالمرأة، خاصة عبر شعائر الانتقال - الوسيط - للزواج، وما يعرف بفض البكارة وأخذ الوش، وعلى طول كيانات الوطن العربي.
فنحن ما نزال ننظر للمرأة تبعا لتواتر النظرة الحجرية أو الطوطمية، أو الأسطورية السالفة، على اعتبار أنها منبت الخطيئة الأم، كذا شملها التحريم أو الحرام أو الحريم والحرمة «فاعتبرت من المحرمات»، وربط التابو بين النظر إليها والخطيئة على اعتبار أن «العين تزني».
وفي تقديري أنه لو كانت هناك دراسات علمية جادة تغطي تابو المرأة في مختلف مراحله وأبعاده؛ لأصبح في الإمكان التوصل إلى نتائج مفزعة سالبة، تتصل بأفرع النشاطات الإبداعية والإنتاجية والعقلية والتسلطية، لعل أبسطها هنا تصورنا لمدى التخلف الذي انتهت إليه المرأة ركيزة الأسرة العربية، نتيجة لظروف القهر والإدانة المنحدرة الممتدة من عصور ما قبل العلم. وبالطبع والضرورة يواصل هذا التخلف تفريخه داخل الأسرة العربية التي هي نواة وركيزة المجتمع الأولي.
كذلك ستقودنا الدراسة إلى مدى العلاقة الوثيقة بين تابو المرأة والجنس، وبين آفة الانفجارات السكانية المهددة التي تعانيها شعوبنا، خاصة في مصر، ووادي النيل بعامة.
ويلاحظ أنه قد يبدو للوهلة الأولى أن جدلية العلاقة بين تابو المرأة أو الحرام
Haram
كما تنبه إليه وسماه وعرفه روبرت سميث منذ مطلع هذا القرن، وبين الانفجارات السكانية المخيفة التي أصبحت تتهددنا على المستوى الكوني، وبخاصة في العالم النامي.
وبمنعى آخر، هل يؤدي تابو المرأة والجنس المتواتر منذ منبعه على طول منطقتنا العربية - وأخصها مصر - إلى خدمة النسق أو البناء السكاني، أو أن ما يحدث وتؤكده إحصاءات الأمم المتحدة هو العكس؟
بل إن في الحلول المتعسفة التي مداها التحلل الجنسي في اتجاه عقلنة هذه العلاقة، والتي يلجأ إليها الغرب ومجتمعات ما فوق التصنيع، وأن من أهدافها الأخيرة - بالطبع - التوصل إلى انضباطات سكانية أقرب إلى الدقة والنفع.
كذلك ستوقفنا مثل هذه الدراسة إلى الارتباط الشديد بين معوقات وتابوات الجنس، وبين تخلفنا العقلي والحضاري.
ولا يمكن تصور مدى الارتباط بين حلول تابوات وموروثات الجنس، وبين الاندفاعات العقلية والحضارية في العالم المتقدم من حولنا، بشقيه الاشتراكي العلمي، والرأسمالي الإمبريالي. فما يحدث حولنا من ارتباط بين الجنس والثقافة ممثلا في مختلف الأنشطة من نوادي لمجلات ودوريات، وكتب وأفلام، ومسرح وسينما وتليفزيون، وتربية وشارع وسرير ... إلخ؛ لا يحدث اعتباطا أو انحلالا كما يدعي الجهلاء الفاشست المخربون.
ولعل في ظاهرة انفكاك وتفجر تابوات الجنس في الخفاء والظلام والزحام - بالشكل والكم الذي نشهده ونعرفه جميعا - ما يشير بوضوح إلى ظواهره المرضية.
ولعل أكثر الحالات أمنا، والتي لا يعيرها الكثيرون التفاتا هي حالات الشذوذ النسائي أو البناتي - السحاق - وهي أقل حالات التابو عندنا.
وتبدو كما لو كانت طبيعية أو غير متصورة، على عكس ظاهريتها في الغرب الملفتة جدا - كتابو - خاصة إنجلترا وأمريكا.
فإذا ما تعمقنا قليلا في جدلية العلاقة بين تابوات الجنس والزحام في مدننا، لهالنا ما وجدنا أنها ردة «لا شعورية» لمراحل الإباحة «وليس القباحة» التي مرت بها مجتمعاتنا التي قدست عشتار والتعشير منذ 6 آلاف عام.
ولو وجدنا أيضا أنها حالة يمكن تصنيفها مع ظاهرة الثقافة أو المواقف المضادة التي تتمثل أول ما تتمثل في النكت والنكت الجنسية بشكل خاص، في تلخيصها لرغبات دفينة - كما سيتبدى في أغاني الزواج - وفي مجابهتها لمختلف الضغوط - الفوقية - والممنوعات أو التابوات، ممثلة في الموقف الرافض المضاد للعرف - المثال أو العاطفي - للمجتمع المغلق.
وخير حقل ميداني لمثل هذه النكات الجنسية الفاضحة هي: احتفالات - انتقالات - الزواج وما يجري عبرها من انفلات إباحي، تذكرنا بتقاليد العرس المختلط.
بدءا بالتفريج الذي يجده المراهقين والمراهقات في مجال أو حقل الأغاني والموال والأشعار، والمأثورات الشعبية بعامة، ومرورا باحتفالات الحناء وليلة الدخلة،
3
ومسرحيات حجرات النوم النسائية أو القاصرة على النساء، التي كان يجري تقديمها - حتى وقت قريب - في بعض المناطق والكيانات العربية، والتي أشرنا إليها في أماكن لاحقة.
وأيضا احتفالات الشباب بزفة العريس على طول البلد أو القرية، والتي يتخللها تعريته ملط تماما، ويروحون يقرصونه، ويغزونه بالإبر والأشياء الحادة في جسده، وفي أكثر أماكن جسده حساسية، بهدف استثارته جنسيا، سواء بفواحش القول، أو الممارسة، لحين دخوله على عروسه والاختلاء بها، بعد أن تقوم الداية أو القابلة بتعريفهما وتقرية العروس.
حيث في الخارج تتعالى أغاني الفتيات التي تدور في مجملها حول فض البكارة، ودم العروس، الذي ما إن تقوم القابلة بإشهاره حتى تتعالى الزغاريد، بل والطلقات النارية، ويروحون يطوفون به البلدة، مصحوبا بالأغاني التي تهيب - بتابو - دم العروس المشهور - وبأبيها:
قوللو لأبوها إن كان جوعان يتعشى
قوللو لأبوها إن كان عريان يتغطى.
أما في سوريا فالفتيات يتغنين: «يا مبيضه شاش أبوكي مع تنا أمك.»
ويبدو أن الأمر أكثر صعوبة وتعقيدا في السودان، وفي بعض الكيانات العربية التي تمارس - «تخييط» أو حياكة فرج البنات، وتقطيع أشفار فروجهن تبعا لشعائر الطهور المتوارثة الموغلة في بهيميتها، وطوطميتها، وتابوهاتها.
لكن ممارسات أخذ الوش وفض البكارة تبدو أكثر توحدا في مصر وسوريا وفلسطين، وما بين النهرين.
ففي سوريا لا يختلف الأمر.
وهي شعيرة أو مأثور - تابو - فلسطيني المنشأ - بداية الألف الثاني ق.م ويحضرني هنا أن القصصي الفلسطيني المرموق يحيى بخلف قد أقام عليه إحدى قصصه العذبة، باسم «تلك المرأة الوردة»، حيث يقع حادث سرقة خلال عرس في منزل القاص الراوي، وتتهم فيه حبيبته - المرأة الوردة - المدعوة، إلى أن تختفي من حياته، ويروح ينشدها حبيبها عبر عواصم العالم ومنافيه.
ويرجع عمر هذا المأثور الفلسطيني إلى قرابة الأربعة آلاف عام، فأقدم أنماطه يجيء مصاحبا لزواج يعقوب - الذي سمي إسرائيل - عقب زواجه من راحيل أو راشيل ابنة خاله لابان بن ناحور - الآرامي اللبناني الأصل - واختطافها على هودجها، ولم يفت راحيل «تلفيقها» لحادث سرقة أصنام أبيها، بعد أن خدعه «عريسها» يعقوب، كما يرد في العهد القديم كالتالي: «وخدع يعقوب قلب لابان الآرامي» حين سافر لبضعة أيام في عيد - أو مولد - جز الأغنام، عند ذاك - كما يقول سير جيمس فريزر: «همت القافلة بالرحيل، حيث ركب النساء والأطفال الإبل، فسارت من أمامهم وإلى الخلف قطعان الماشية، التي ملأت الجو بثغائها، وقد كان سير القافلة بطيئا بالضرورة طيلة يومين، إلى أن لحقهم خال يعقوب - لابان بن ناحور الآرامي - في اليوم الثالث حين علم بهربه، فأخذ أخوته - قبيلته - معه.
وسعى وراءه مسيرة سبعة أيام، فأدركه في جبل جلعاد، وأتى الله إلى لابان الآرمي في حلم الليل، وقال له: احترز من أن تكلم يعقوب بخير أو شر. فلحق لابان يعقوب، ويعقوب قد ضرب خيمته في الجبل، فضرب لابان مع إخوته في جبل جلعان.
وقال لابان ليعقوب: ماذا فعلت وقد خدعت قلبي، وسقت بناتي كسبايا السيف؟ لماذا هربت خفية، وخدعتني ولم تخبرني حتى أشيعك بالفرح والأغاني بالدف والعود، ولم تدعني أقبل بني وبناتي؟ الآن بغباوة فعلت في قدرة يدي أن أصنع بكم شرا، ولكن إله أبيكم كلمني البارحة قائلا: احترز من أن تكلم يعقوب بخير أو شر، والآن أنت ذهبت لأنك قد اشتقت إلى بيت أبيك، ولكن لماذا سرقت آلهتي؟
فأجاب يعقوب وقال للابان: إني خفت لأني قلت لعلك تغتصب ابنتيك مني الذي تجد آلهتك معه لا يعيش قدام إخوتنا، انظر ماذا معي وخذه لنفسك، ولم يكن يعقوب يعلم أن راحيل سرقتها.
فدخل لابان خباء يعقوب، وخباء ليئة، وخباء الجاريتين ولم يجد.
وخرج من خباء ليئة ودخل خباء راحيل، وكانت راحيل قد أخذت الأصنام ووضعتها في حداجة الجمل، وجلست عليها، فجس لابان كل الخباء ولم يجد، وقالت لأبيها: لا يغتظ سيدي، إني لا أستطيع أن أقوم أمامك لأن على عادة النساء - تابو دم الحيض - ففتش ولم يجد الأصنام.»
فيلاحظ هنا أن شعيرة أو تقليدة أو تابو تدبير أو تلفيق حادث سرقة عادة ما يجيء مصاحبا «لشعائر انتقالات» الزواج ليلة الدخلة، هدفه إحداث صدمة أو استفزاز «جنسي» حتى يمكن «لكلا العريسين» أداء دوره المبشر أو المشير في النهاية إلى الخلف الذكوري، وليس أبدا كما فسره فريزر، أي إن هدفه هو مجرد السرقة والتحايل للتاجر السامي - العربي - يعقوب وزوجته.
بل إن فريزر قد أخطأ وتجنب عدم اعتباره تابو أو مجرد سرقة عادية لأصنام آرامية أو لبنانية، ذلك أنه هو بذاته ما أورد كيف أن راحيل الذكية كانت قد أخفت «المسروقات» في محفة - أو بردعة - أو هودج الجمل، وجلست فوقها وهي تضحك في أكمامها، بينما كان والدها ينقب بدقة في خيمتها.
أي إن راحيل اللصة السارقة كانت تضحك «كإلهة» أنثى مستبشرة بكلا - الاستثارة الجنسية التي أحدثتها الصدمة ليعقوب الذي لم يكن يعلم بما درته، وبدور «هذا التابو» في الخلق، وإنجاب الأطفال البنين.
ذلك أن راشيل كانت تعاني إلى أقصى حد من عقورتها، وحاجتها إلى إنجاب الأطفال الذكور، وكانت دائمة التوجع والشكوى لحاجتها إلى الإنجاب «هب لي بنين وإلا فأنا أموت.»
وهكذا توالت معاناة راشيل - كإلهة أنثى، من اسمها تواترت تسمية إسرائيل عقب زواجها من يعقوب الذي تسمى برجل راشيل، إلى أن أنجبت يوسف أو النبي يوسف.
مما يرجح كفة تفسير أن هدفها «من تلفيق» حادث أو شعيرة السرقة هو إنجاب الأبناء - الذكور - وهو ما توارى عن إدراك سير جيمس فريزر.
وكذا قصاصنا الفلسطيني يحيى بخلف للسرقة - الملفقة - داخل عرس بيتهم بفلسطين الذي حضرته امرأته - الوردة - ولحقها ذلك الاتهام - الملفق - الشعائري.
يضاف إلى هذا أن شعيرة السرقة - الملفقة - خلال شعائر انتقالات العرس المختلط ما تزال تمارس إلى أيامنا، سواء في فلسطين كما تشير قصة المرأة، أو سوريا كما يذكر د. الحمامي، عن «سرقة بعض الأواني؛ ملعقة أو إبريقا. وحجتهن في ذلك أن تدخل العروس به فتنجب أولادا من الذكور»، فيبدو أنها شعيرة سامية ذات أصل آرامي أو لبناني، والأقرب إلى أن يكون فلسطيني تواتر بالهجرة والتحادر إلى التراث العبري، ومنه سفر التكوين.
كما قد يكون من أغراضه الاستحواذ على العريس، وعلى حواسه ومشاعره، التي من أهدافها بالتالي: حمايته - ولو بالسيوف والبنادق - لحين دخوله على عروسته، وفض وإشهار بكارتها، فهي شعائر حماية لرجولة العريس، التي عادة ما تمر بسلسلة من شعائر الحماية، سواء تمثلت في خطار الجسد، الذي قد يدفع بإنسان عدو أو عزول لعريس لأن يربطه، وافتقاده لرجولته، وقد يتمثل هذا في العراق. حين يمرق حيوانا معينا - أو تابو - من أمام موكب زفة عريس أو عرسه، كالثعلب أو ابن آوى، كما قد يتمثل في سوريا في امرأة تمسك بيدها إبرة وخيطا - غير معقود - تخيط بها عن بعد وهي ملازمة لزفته، بهدف إحلال السحر المضاد - أو الإيجابي - الذي تقوم بعقده سواء القرينة، أو خصوم العريس وعزاله.
كل هذا الوخز بالدبابيس يلاحق مناطق العريس الجنسية، ومن جانب ثان تشديد الحراسات بالبنادق والسكاكين، والعصي والخناجر كما في العراق، حيث يمكن العثور بطريقة ملفتة إلى مدى التوحد التراثي - العربي - مع مأثورات «ليلة عرسك اذبح بسك» أو قطتك؛ لإخافة العروس من هول وتسيد رجلها.
بل عادة ما يتعرض العريس للمحاكمة في حالة فشله وإخفاقه جنسيا مع عروسته، سواء من جانبه أو من جانبها، ففي حالة إخفاقه هو، فما إن يتسرب خبر إخفاق السرير حتى يستقدمه رفاقه، ويعقدون محاكمة قاسية، حيث يهجمون عليه ويربطونه ، ويتكاثرون عليه ضربا مبرحا، إلى أن تأتي العروس وتتشفع له عندهم، على أن يطول رقبتها معهم في الفراش في الليلة القادمة وينتصب ويشتد حيله، وإلا فستعاود الشكوى والعقاب.
أما في العراق فتبدو شعائر فض البكارة أكثر تعقيدا؛ حيث تخيم عليهم مجموعة من التابوات، منها ما يتصل بالرجولة والخرافات، ونشدان الأمن، فما أن يحبط العريس، أو يربط أو يصاب «بالحبسة» حتى يقتضي هذا سلسلة من «التعزيم والكضبة» لإبطال سحره، باستخدام سحر الشبيه - الذي يلد الشبيه - أو الأتر، بأخذ أثر من العريس، أو من تحوم حوله أو حولها الشكوك في رابطه، قد يكون قفل منزله والتعزيم عليه، ثم إلقائه في النهر أو إحراقه، وهنا تفك ضائقة العريس، وتعاوده رجولته وانتصابه.
والأمر بالطبع ليس بعيدا عن ممارسات هذا التابو الجنسي الفاجع، المبدد للكثير من الطاقات، التي تفت في عضد الأسرة العربية في عصر العلم.
الأمر ليس ببعيد عما يجري في المجتمعات البدوية العربية خاصة أقصى مغربه وجنوبه، بالإضافة إلى ما يجري ممارسته في لبنان والأردن ومصر من مخالطة للدم والجنس أو «الدم واللبن»، وتابواتهما المتسيدة.
نصوص أغاني الزواج والإنجاب
داري جمالك عن عيون الناس
لولا الملامة يا حبيبي وكلام الناس
لحط رجلي ورجلك في قميص ولباس
واحلفك بالأمانة ما تقول للناس. •••
يا بدر شيلة عيونك قصفت نخلي
لو كان نخلك دهب ما يسد في نخلي
يا لفتتك في العباية فوتتني أهلي
ايمته تدوب العباية وارجع لأهلي. •••
عيني وراك يا جدع ياللي ورا الناقة
سايق عليك النبي تيجي عندنا وتبات
نضحك ونلعب ونفتح للهوا طاقة
عيني وراك يا جدع ياللي ورا الشبك
سايق عليك النبي تيجي عندنا وتبات
نضحك ونلعب ونفتح للهوا شباك. •••
منديل حرير طار من على راسي
منديل حرير هفه الغرام
منديل حرير طار على راسي
لحول البحر بالفنجال على راسي
واصحن الرمل والصوان على راسي
يمكن على الله يحن قلبك القاسي
يا عيني على الرمان ... مال عليه مال ...
شعرك حليتيه بالزبدة دهنتيه
لما جا العريس يرخيه
وأنا اللي ليلي طال .
وفي أغاني البنات المراهقات ... كثيرا ما تعبر الأغنية من رغبات البنت، ومطالبها العاطفية ... والجنسية. ومشاكلها البسيطة التي تتمدد في إطار حياتها اليومية الضيقة.
وفي الأغنية القادمة تعبر صاحبتها عن عدم اهتمامها بمن خاصمتها. وفي الليل ... كثيرا ما تتكون شلتان من البنات، وتجلس كل شلة على عتبة دار، أو رأس حارة أو تحت ضوء فانوس.
ثم تأخذ كل شلة في الغناء «والروح» موجهة كلامها إلى الشلة الأخرى ... كمن يبدو في الأغنية القادمة.
على ضي العين مسيلي يا قمر
على ضي العين كرمله وعين جمل
على ضي العين ادلع يا جمل
على ضي العين أنا بحب القمر
حطوا اللمبة في الدولاب
وفيها السمك يا العلباب
1
واللي مخاصمني ع القبقاب
على ضي العين مسيلي يا قمر. •••
جابو اللمبة في حجري، وفيها السمك يجري
واللي مخاصمني على رجلي
على ضي العين مسيلي يا قمر. •••
البت طلعت ولا جتشي
طلع وراها النبطشي
2
ما دام شريفة متعبرشي
3
على ضي العين مسيلي يا قمر.
بياعين العنب
على بياعين العنب، على بياعينوا من غير جنب
جابلي اللحمة في بابور زحمة
رجع اللحمة وهاتلي العنب
جابلي الشبشب يقرأ ويكتب
رجع الشبشب وهاتلي العنب
جابلي القبقاب في بابور ركاب
رجع القبقاب وهاتلي العنب. •••
أوعى شويه ... الليل طويل
يا أبو عجل تخين
سخسختني ... موتني، وكل دا
من أكل العنب. •••
ما تشوف يا حبيبي، متشوف عيني مالها
جابلي القطيفة في علب نضيفة
وقالي: خدي يا لطيفة
قبل ما فرق، متشوف عيني مالها
جابلي الملبس في علب مكبس. •••
قبل ما فرق متشوف عيني مالها
يا واد يا حسين
آه ... وآهين يا واد يا حسين
وأروح بيك فين؟
تحت الكلوب، ما وقع الحب
تحت السلالم، والرب عالم
تحت الفانوس، أحضن وأبوس. •••
كام ليلة ... وكام يوم
كام ليلة ... حرمني النوم
كام ليلة ما شفت حبيبي
كام ليلة حرام يا نوم.
في بعض نصوص الأغاني السابقة، وهي من أغاني البنات الصغيرات، وغالبا ما تقال عند بيت العروسة قبل الدخلة بأسابيع.
والتصريحات الجنسية التي تدور حولها بعض هذه الأغاني تشير إلى صراحة العلاقة التي تربط المرأة بالرجل.
تسعين ليلة، وأنا هاجز مرجاداي
يبليك مبليتيني يا بنت الريس علاي
يبليكم مبليتوني ... يا بيض يا صغيرين
بتقولوا دا انتو بليتوني
واللي بلانا مين؟
اللي بلاني ولد صغير وداجج
4
ع اليمين
الرأس راس يمامة والبطن تناي تناي.
مجرودة بدوية
وللقبائل البدوية التي تقيم في عزب وكفور خارج «البنادر» أدبها الشعبي الخاص بها، فلهم أغانيهم التي يدعونها «التنوحة»، وتحريف الكلمة مشتق من النواح.
وتبدأ الأغنية هكذا:
وين ... وين ... وين يا عرب ...
ويلاحظ الارتباط بين مطلع الأغاني الشعبية عند هذه القبائل وبين بدء الشعراء لقصائدهم بالحديث عن الأطلال ... والأمجاد الغابرة.
وفي أفراحهم يجتمع شباب القبائل، ويختارون أي فتاة تعجبهم، ثم يطلبون منها أن ترقص.
وتسمى الراقصة بالحجالة.
فتنتصب في وسط السامر، وتهتز على دقات «الدربكة» وتصفيق الرجال، ثم يقف واحد ليغني لها، وتسمى الأغنية «مجرودة»، والباقون يرددون، ويسمى ترديدهم ... بالطبة.
وفي أحيان ما يتبارون في إطلاق النار من فوق رأس الحجالة مباشرة وهي ترقص.
وكثيرا ما يتبارون في إطلاق النار على عقدة المنديل المعقودة على رأس الحجالة.
وفي المجرودة القادمة، التي يصف فيها الشاعر العربي الحجالة وهي ترقص.
وفيها يبدأها بالتحية، ثم يوجه إليها الحديث، معلنا على السامر كله أنها كانت عنده «ذلك اليوم»، وكتبت منه «جرنانين».
ثم يمضي فيعدد ما كتب في كل جرنال، وهو وصف غزلي يتناول محاسنها وتقاطيع جسدها من رأسها حتى قدميها.
مسيك
5
بالخير يا عين الطير
يا بيهام
6
في لبس الخايل
أول ما نبدي بالجول
تعالى جدامي صباي
تعلى جدامي بعجل رهيف
ومني ما تدار
7
أشاي. •••
على إيه يا بيه بتتغبن
وانت داك اليوم عنداي
وكاتب مني جرناناي؟!
وف أول ما الجرنال بيجول:
باسم الله ... باسم اللهاني
يا راسك وراس يمامه
واللي خالقها هو رباي
يا شعوري وسلب جمال ...
في يد واحد نسا جاي
8
والأورة كيف
9
البنورة ...
تنور في العتمة الضلماي ...
يا عيونك وعيون غزلان ...
اللي خالقهم هو رباي ...
يا سنونك صفين عساكر ...
تخدم في واحد باشاي ...
يالشفة كيف الليمونة ...
المصة منها آهي تبراي ...
10
يا الرقبة كيف الجمارة ...
وزاينها عجر اللولاي ...
يا صدرك تجول جنينة ...
ويطرح فيها رماناي ...
يا وسطك وسط السافايا ...
في المسكة لم يحمل شاي ...
يا السرة كيف الفسجية ...
تجول فناجين مكفاي ...
تحت السرة داير بالدور ...
تجول بجور بتصنع شاي ...
يا فخادك لوحين صابون ...
يخيلو في عمل الفاساي.
11
الطبة
وأنت يا عزيز ... خطاك معانا منشان
12
آه؟!
وفي المجرودة البدوية التالية يشبه حبيبته بالحمامة:
يليلي ... يليلي ... يليلي يا عين
حمامة
13
يمامة، جرحتني جرح، مش عارف
حدوده فين
حدوده مصر الجديدة، وريس البرين
والله إن طبت يا جرح
لجبلك جمل وحصان
وأجيبلك شرق المدينة
وانصبلك الصوان. •••
مقابلوني اتنين مكار
واحدة قمع سكر دايب
والتانية تطير العقل م الراس
تعالي يا قمعه سكر يا دايب
لكن اللي تطير العقل م الراس
لروحها لابوها
وخليه يضربها ويبسها في الدارين.
أغنية بياعين السمك
بني يا سمك بني، يا متنقرش يا متحني
طول الليل وأنا داير، وآدي سمكي معايا باير
الست البيضة بتتمايل، ولا جتشي شرت مني
يا مللا ... يا مللا البير
انت بتملا واللي عندك مين
يا مللا ...
عندي عريس دا العجبان
لابس الجوخ على القفطان
يا بيته رخام في رخام
شبيكه ش العصافير
يا مللا ...
الحبيبة البدوية
ع البيدوية
14 ... البيدوية
قالتلي: ومنين يا شاطر؟
قلتلها: ومنين يا شاطر
قلتلها: جزار يا عنيه
قالت لي: جزار ما بريده.
يدخل لي بسكينه في إيده
يرعبني وأنا لسه صبية
ع البيدوية ... البيدوية ...
قلتلها: فلاح يا عنيه ...
قالتلي: فلاح ما بريده ...
يخش عليه بطوريحه
15
في إيده
يرعبني وأنا لسه صبية.
وفي الأغنية السابقة، التي ترقص فيها «الصبية» العرسان الذين يتقدمون لها، وكأن هذا من حقها، سوى أن الأغنية هنا منفذ ضد التابوات، وهنا أغنية شعبية سودانية بهذا المعنى تقول:
التربال ما بدورو
يجيب الكرشة في الطجية ... ما بدورو.
والتربال: هو العامل الأجير، «ما بدورو»: أي ما بريده!
أغنية جيش
ع الموال الجبالوني، ع الموارد يا عيوني
وم البيوت أهم لموني، وع البندر سلموني
ف الحجز وبيتوني، وع المحطة وطلعوني
وف الفيوم وكلموني، وع المحطة وطلعوني
وف تمن الجيزة ونزلوني وف الحربية ودخلوني
وف البدلة ولبسوني، وآخر الشهر وقبضوني
ع الموال الجبالوني ... ع الموارد يا عيوني.
أغنية تحكي قصة حب ... تختم بالزواج
على الله ... على الله، يهون العسير
على الله كواني، وصابح يشيل
ياما كرهوني ... فيك يا جميل ...
يا مهجة قلبي ... يا ابن الأمير ...
البنت تقول:
يا نينتي أنا طالعة، وقابلني الجميل
ولو عنق مايل، «وبقيت في وجد كتير»
يا نينتي قولي لبويا:
يكتب كتابي ...
على دا الجميل ...
وإن مرتضاشي، لميل عميمته
ما بين العرايب، وتبقى مذلة
وشانا كبير ...
على اللي كواني ... وصابح يشيل.
الأم:
يا راجل ... يا راجل، بنتك قالتلي
قوم اكتب كتابها، على دا الجميل
وإن مرتضتشي تميل عميمتك
ما بين العرايب، وتبقى مذلة
وشانا كبير ...
على اللي كواها ... وصابح يشيل. •••
ما جابوك يا قاضي، ولموا القبايل
وعملوا العزايم، ودبحوا الدبايح
وجت العروسة تقول اكتب يا قاضي
والمهر واصل ميتين بعير. •••
قوم يا حبيبي، بقيت حليلتك
افعل ما شئت، الله يسامحك.
أغنية من أسوان
لا شفته ولا ريته ولا أعرف طريق بيته
وع السمعة وحبيته، ادلع يا جميل
فين أجيب وليف لغسل الصابون ع الليف
حبيبي ملك الخريف، ادلع يا جمل
جاعده على الخزان تراعي ورا جدام
يا صبية راعي الغلبان، ادلع يا جمل
يا جاعدة على التابوت عيانه ورايحة تموت
على الله الموعود دا يفوت ادلع يا جمل
يا مركب نازلة من الكوم
واسجه حلاوة ودوم
يا وحيدة وصح النوم
ادلع يا جمل
يا مركب نازله من سوان
واسجه حجر صوان
يا جبي وجع في النسوان
ادلع يا جمل
يا ضرباني بالجريدة
يا ست أجولك ع الحجيجة
دي بطنك مصر الجديدة
ادلع يا جمل
يا ضرباني بالجادوم
يا عاشج معلياش لوم
يا وصفاتك في الفيوم
ادلع يا جمل
يا ضرباني بالمسلة
ضلعي اليمين ما اختله
يا وصفاتك في المحلة
ادلع يا جمل
ما جالت تعالى حداي
صب اللبن ع الشاي
دا حبك جطع لي حشاي
ادلع يا جمل.
تقال الأغنية القادمة للبنات المعدة للزواج، والغرض منها تعليم البنات وإفهامهن أنهن سوف يحملن ... ويلدن ... ثم كيف تتصرف الواحدة منهن خلال أشهر الحمل التسعة.
والنني: المقصود به الطفل الرضيع.
أغنية أطفال
النني ... النني ... دلعه مجنني
آدي أول شهري، ما جتني ضهري
يا خوفي من أهلي، يتبروا مني
وآهي جت في التاني، ما بكلشي الضاني
ما بكلشي الضاني ... يتظفلط مني
آهي جت في التالت ما بكلشي النابت
ما بكلشي النابت، يتنفخ مني
وآهي جات في الرابع ما ومخلقلو صوابع
مخلقلو صوابع، دي بشارة النني
آهي جت في الخمسة مابكلشي الكرشة
مابكلشي الكرشة، يتنقرش مني
آهي جت في الستة، بحبحت الدكة
بحبحت الدكة، لسلامة النني
وآهي جت في السابع لبنيلو جامع
لبنيلو جامع، لصلاة النني
وآهي جت في الثامن قوم هات لك ضامن
قوم هات لك ضامن وتعالى كلمني
وآهي جت في التاسع قوم هات لي الداية
وبنت الداية تبات حدايا وتلاقي النني
أهو جالو عمه، بينقطلو في كمه
افرحي يا مرات عمه، دا نقوط للنني
وآهو جالو خاله، جايب خلخاله
افرحي يا مرات خاله، دا نقوط للنني
ما طلعت الغرفة، بزف الزفة
يا حسر بالي ... خطفتو القطة مني. •••
يليلي يليلي ... يليل يا عين
حمامة يمامة جرحتني جرح
مش عارف حدوده فين. •••
حلوة يا عروسة يا ماشية ع القضيب
معاكي زبدة والا لبن حليب
أنا معايا زبدة بالصلا ع الحبيب
تحت شباكنا، واخطب يا خطيب
وقبل ما تخطب دور ع النسيب.
فتدور موضوعات الأغاني الشعبية - غالبا - حول علاقة الرجل بالمرأة، وكلها تتحدث عن الزواج.
والأغنية السابقة تهدف إلى أن يبحث طالب الزواج عن «نسيبه»، أي والد عروسته أو أهلها، قبل أن يتقدم إلى عروسته.
أي إن جمال العروسة ليس كل شيء لكي تكون أملا للزواج، بل يجب أيضا أن يبحث «العريس» عن أصلها.
ميت مركب ملانة فن
يا عم إذا كان على الفن، عندي ميت مركب ملانة فن
وحبالها فن ... وقلوع المراسي فن
عندي قلم فن يكتب في دفاتر فن
ومشينا للفن لما القدم أجفن
16
ومشينا للفن، وجبنا درهمو بالفن
17
وصفم دواك يا عليل، لقو التمر هندي الفن
وأبات أقلب في الفن، أخاف عليه ليجفن
وكان «الغبارى» زعيما، وحاز الفن
يا خسارة العقول الذكية في التراب يدفن. •••
أكام يا حلو توعدني ... وبكره آجي
وابات أصحن على كفي ... وبكراجي
18
فناجيل صيني ... وبن أخضر ... وحظ وكيف
أعاد لحباب حلو، ما ينشبع منه
وتمسوا على خير ...
أنا مروح وبكره آجي.
19
نامعلوم صفحہ