نظر القاضي مدة إلى رفاقه ثم ابتسم قائلا: أسلافك من قاموا بالأمر؟ إذن أنت تنكر أنك من فعلت ذلك!
قمت بتعديل بذلتي، ربما فعلت ذلك لأنني لم أجد ما أقوله، ثم جلست أنظر إليه مفكرا.
وفكرت، اكتشفت أنني كنت وسأكون دوما الرجل الذي لا يمكن تحريكه. بالطبع أخذ مني زمن طويل قبل أن أكتشف ذلك، وأخذ من عالمي بشر كثر ليحدث ذلك، وإنني لا أنسى صنيعهم، ولا أذكر ما حدث معهم بعد تلك الأيام، وفي تلك المرة، لا أذكر ما حدث مع سائق الحافلة، إن هو توقف عن تدخين السجائر، أو ما حدث مع العربي إن هو اكتشف أنه تأخر حقا، أو كيف عاشت زوجتي ما تبقى من حياتها مع زوج آخر يشبهني في كل شيء إلا طباعي الغريبة التي تحبها، أو إن بكت ابنتي يوم وفاتي كما بكت على تلك العجوز، أو إن تغيرت حقا عما كنت سابقا، لكنني أذكر أنهم شاركوني ما كنت عليه، واليوم هو اليوم الذي فكر فيه أسلافي بخصوص معنى الحياة وبخصوص ما سيفعلونه حيال ذلك المعنى، واكتشفوا طريقة للخلود، طريقة لم يعرفها أحد، ولن يعرفها أحد، حتى أنا، وخلدوا في حرب مع القدر، ذلك الخلود الذي يكرهه هذا الأخير.
قال القاضي: أتذكر في أي وقت حدث ذلك؟ - نسيته، بعد زمن، عشت مدة لم أعد أذكر فيها ما أعيش. - حسنا أخبرنا عن الطريقة (ينظر في إحدى تلك الدفاتر البيضاء). - أنا طريقة ذلك الخلود (بصوت هادئ) والدليل الوحيد على وجوده. - سيكون من الصعب تصديق ذلك.
ثم سألته قائلا: ماذا تكون أنت؟ - أنت تعرف من أكون. - حسنا، لم أستمر في العودة إلى هنا؟ هل أنت القدر الذي أعرفه؟ - لا يمكن أن تقابل قدرك بني، لنقل إنني مجرد تخيلات لك في هذا المكان. - حسنا، ما هذا المكان؟ - أنت تطرح كثيرا من الأسئلة (ينظر إلى بقية القضاة). (أخذ نفسا قبل أن يقرر أن يشرح أكثر.) - مجددا يجب أن أوضح الأمر، أنت هنا لأنك اخترت ذلك، لكن ... لكن أنا من يتوجب عليه طرح الأسئلة الآن، فيما بيننا، إنه المكان الذي ستنتظر فيه انقضاء تسعة أشهر، هو مكان فقط ... بين السماء والأرض . - إذن لم تطرح الأسئلة إن توجب أن أنتظر فقط؟ ثم إنه، في الغرفة الأخرى، أروني شيئا عني. لم الجميع هنا يتحدث بخصوصي؟ أقصد كلما أزور المكان. - أخبرت المحقق أنك تعرف المكان، صحيح؟ (يقصد الرجل الذي استجوبني.) - أجل، شعرت أنني زرته مسبقا، لكن ...
ثم أضفت: أين أنا بالتحديد؟ - بني، إنه مكان ما، لنسمه العدم الموجود، ربما هكذا سميتموه، ولنقف عند هذا الحد. ربما يوما ما ستعرف أكثر عنا، بالتأكيد بعدما تعرف أكثر عن شخصك. تذكر، طرحنا للأسئلة هو طرحك لها ليس إلا! أنت مهم بقدر ما هو مهم أن تعرف أن القدر ليس نحن، إنه أنت.
وأضاف: القدر بني هو ما ستكون عليه هذه المرة. - أخبرني، ماذا عن ابنتي؟ هل هي بخير؟ - لا تقلق، يعمل الجميع بكد لإنقاذ الوضع، ثم إن ابنتك امرأة قوية، وهي تظهر ذلك في هذا الوقت. الأطباء يعملون على إنقاذها، وبما أنك صديقي فلتعلم أن ابنتك قد قدر لها أن تنجو. - ماذا أفعل الآن؟ - ستنتظر، وسنرى في دفاترنا البيضاء ما سيحدث، وإن كان لك فرصة، ستغادر هذا المكان. - من الغريب أن يحدث هذا، اعتقدت أنني غادرت الحياة، وها أنا أجلس هنا أقابلك وخلفي هؤلاء. - ليس الغريب ما يحدث معك، الغريب أنك لا تذكر، ليست هذه أول مرة يحدث لك هذا.
القسم الأول
في مكان ما على هذا الوجود
أخبروني قبل قليل أن ابنتي بخير وأنهم أدخلوها إلى المستشفى، كنت أجلس على كرسي خشبي حينما أخبروني عنها، كنت أجلس وحيدا، وسط تلك القاعة، التفت في كل مكان، لم يكن هناك نوافذ، لا شيء سوى تلك الجدران الخشبية التي تشبه في تكوينها أرضية القاعة، التفت إلى الخلف في استدارة جزئية، ولمحت على بعد ما جمعا من الأشخاص يجلسون على كراسي متقاربة، وكان يفصلهم عني حاجز خشبي، كانوا يتحدثون بعضهم إلى بعض، ويكاد يسمع حديثهم، ولما لمحوني استداروا نحوي استدارة جماعية وتوقفوا عن الحديث. رمقوني بنظرة غريبة وكأنني مذنب بشيء ما. خفت من تلك النظرات فالتفت مجددا إلى الأمام، ثم وبعد مدة وبسذاجة طفل صغير أعدت النظر إليهم، كانوا ينظرون إلي في غرابة، وكان البعض منهم يضحك. تهامس البعض الآخر أيضا، لكن المؤكد أنهم كانوا ينظرون بحقارة إلي، وخفت من نظراتهم تلك، أحسست بالبرد حينها فجمعت جسدي بذراعي، أعانق نفسي، ثم نظرت إلى الأمام، ولم أكن قد انتبهت له قبل هذه اللحظة، فقد انشغلت في التفكير بابنتي وأنا شارد العقل أنظر في ثبات إلى الأرضية الخشبية، وعلى بعد مني استقرت طاولة ترتفع أمتارا وخلفها تصطف كراسي ضخمة أين جلس القضاة سابقا، وقد زينت ببساط أبيض تدلى إلى الأسفل وكتبت عليه كتابة بلغة لم أفهمها، ثم إنه بالقرب من تلك الطاولة الضخمة درج ينتهي إلى باب في الأسفل، باب يقف عنده رجل ضخم أسود البشرة، كان ينظر نحونا في ثبات، يجمع يديه في اعتدال، ما كان يتحرك بل ولم أشعر أنه يتنفس حتى، كنت قد نسيت لم أنا هنا، بل إنني نسيت كيف آل بي الأمر في هذا المكان، واستغربت وجودي هنا ثم جلست أفكر.
نامعلوم صفحہ