راجناروك: نهاية الآلهة
راجناروك: نهاية الآلهة
اصناف
أحلاما متلاشية في ضوء النهار؛ «شيمبورازو»، «كوتوباكسي»،
لقد سرقوا مني روحي!
أدركت جيدا تلك الحالة الذهنية؛ ذلك العالم الآخر. إلا أن الكلمات التي كانت موجودة في ذهني لم تكن «شيمبورازو»، «كوتوباكسي»، بل كانت «جينونجاجاب» و«إجدراسيل» و«راجناروك». ووردت مثل تلك اللحظات وتواترت لاحقا في الحياة. مثل رؤية «إينياس» ل «عرافة كوماي» وهي تتلوى داخل الكهف. «تلوت العرافة في الكهف بعنف شديد.» أو «الثعبان» البراق ل «ميلتون» وهو يعبر «الفردوس»، ويقف منتصبا على ثنايا جسمه الملفوف.
عندما طلبت مني دار النشر «كانونجيت» تأليف أسطورة، علمت على الفور الأسطورة التي أريد كتابتها. لا بد أن تكون «راجناروك»؛ فهي الأسطورة التي تمثل نهاية كل الأساطير؛ فهي الأسطورة التي تفنى فيها كل الآلهة أنفسهم. كانت هناك نسخ من هذه القصة يتعرض فيها العالم، الذي انتهى في سهل مسطح من الماء الأسود، إلى التطهير ويبعث من جديد، مثلما يحدث للعالم في المسيحية بعد يوم الحساب الأخير. إلا أني قد استنبطت من الكتب التي قرأتها أن هذا ربما يكون تحريفا مسيحيا، ووجدته أمرا ضعيفا وواهيا مقارنة بالدمار الكامل المبهر. كلا؛ فقد التهم الذئب ملك الآلهة، وسممت الأفعى «ثور»، واحترق كل شيء في ضوء أحمر وغرق في سواد حالك. لقد كان هذا، إن صح القول، مرضيا.
وجدت أنه من الصعب أكثر مما توقعت العثور على نبرة غير تنبئية، أو ترنيمية، أو وعظية بطريقة خاطئة، لسرد تلك الأسطورة. إن الثقافة التي أعيش فيها يقل تقديرها كثيرا للأسطورة الصريحة، على حد ظني، كما انتهج الكثير من الكتاب في سلسلة «كانونجيت» للأساطير فكرة صياغة الأساطير في صورة روايات، أو قصص حديثة، وإعادة سرد الحكايات الأسطورية كما لو أن أفرادها يتمتعون بشخصيات وأبعاد نفسية. وهناك أسلوب مميز وممتع آخر لإعادة سرد الحكايات اتبعه الروائي الدنماركي فيللي سورينسن، نشر باللغة الدنماركية بعنوان «راجناروك، قصة الإله» وباللغة الإنجليزية بعنوان «سقوط الآلهة». نشأ سورينسن، على حد قوله، في عالم متأثر بتعاليم القس نيكولا فريدريك سيفيرين جورندتفيج الذي زعم في كتابه «الأساطير الشمالية» (1808 ميلاديا) أن الحرب بين الآلهة الاسكندنافية والعمالقة كانت «حربا للروح ضد الجانب الأحقر من الطبيعة البشرية، تماما مثل الحرب الدائمة للحضارة ضد الهمجية.» لقد آمن أتباع جورندتفيج بأن «العالم الجديد» الذي صور في إحدى قصائد «أشعار إيدا» ينشأ بعد كارثة «راجناروك» - والذي سمي «جيملي» - ما هو إلا إشارة إلى المجيء الثاني للمسيح؛ إنه الجنة الجديدة والأرض الجديدة التي تنبأ بها سفر الرؤيا. فيقول سورينسن، تماما مثلما أشار الباحثون الألمان الذين ألفوا كتاب «أسجارد والآلهة»، إنه نظرا لأن الأيسلنديين، الذين كتبوا تلك القصص، كانوا مسيحيين بالأساس، فلا بد أن تأويلاتهم وشكل كتابتهم قد تأثرا بالديانة المسيحية. استحوذت على الدنماركيين فكرة راجناروك التي أعقبتها جيملي، بعد هزيمتهم على يد البروسيين في عام 1864 ميلاديا، ونسخة سورينسن ما هي إلا جزء من محاولة الاسكندنافيين إنقاذ تلك الأسطورة من الإيحاءات الألمانية (والنازية في النهاية) المتضمنة في أحداث أوبرا فاجنر «فناء الآلهة».
إن طريقة سورينسن في إنقاذ الأسطورة الاسكندنافية وإعادة سردها تتمثل في إضفاء الطابع الإنساني عليها بوصفها ساحة معركة بين القوة والحب، وجعل «لوكي» - الذي كان إلها وعملاقا في الوقت نفسه - شخصية محورية ومتناقضة. و«فالهالا» عند سورينسن آدمية ومحلية. فيصور أن الآلهة لديهم مشاعر وشكوك ومشكلات نفسية.
لا تنتهي رواية سورينسن ب «جيملي»، بل بنهاية العالم؛ فقد اختار، على حد قوله، بين «راجناروك» و«جيملي»، وأثار بذلك حنقا شديدا بين الدنماركيين المتدينين. فما فعله سورينسن، بطريقة مشوقة، هو بالضبط ما شعرت بأنه محظور علي فعله.
لقد حاولت مرة أو مرتين العثور على طريقة لسرد الأسطورة تحافظ على بعدها واختلافها، وأخيرا أدركت أنني كنت أكتب للطفلة الموجودة بداخلي، ومن أجل طريقة فهمي للأساطير وتفكيري في العالم حين قرأت «أسجارد والآلهة» لأول مرة. ولهذا قدمت شخصية «الطفلة النحيلة في زمن الحرب». هذه القصة لا تدور حول الطفلة النحيلة؛ وقد يعزى السبب في جزء منه وراء وصفها بالنحيلة إلى أنها «كانت» هزيلة الجسم، وأيضا لأن ما يرد وصفه من عالمها هزيل ومشرق، وهو ما يعتمل داخل رأسها من قراءة وأفكار، وطرق ربطها لعوالم «أسجارد» ورواية «رحلة الحاج» بالعالم والحياة التي عاشتها.
ربما تكون الحرب قد دمرت عالم الطفلة النحيلة. ولكنها خلقت أسطورتها المضادة في رأسها. حتى لو وصلت - أو في الواقع عندما تصل - هي نفسها إلى النهاية، فإن الأرض ستواصل تجديد نفسها. فقد امتلأ الحقل الواسع بالأزهار، وامتلأت السماء بالطيور، وأخفت الضفة المتشابكة عالما من الصراع، وكانت المياه تعج بالحياة بكائنات تسبح وتتلوى فيها. إن موت الآلهة ما هو إلا قصة خطية متسلسلة؛ لها بداية ووسط ونهاية. وحياة البشر قصة خطية متسلسلة أيضا. وتنزع الأساطير إلى وقوع الكوارث، وربما إلى البعث . لقد آمنت الطفلة النحيلة بالتكرار الأبدي للأشياء النامية، وبتقلب المناخ والأجواء.
ومع ذلك، فإنك حين تكتب نسخة من «راجناروك» في القرن الحادي والعشرين، سيطاردك حتما تصور لنهاية مختلفة للأشياء. فنحن فصيلة من الحيوانات التي تجلب الدمار للعالم الذي ولدنا فيه. ليس بدافع الشر أو الخبث، أو على الأقل ليس بالأساس، بل بدافع من مزيج غير متكافئ من الذكاء الاستثنائي، والطمع الاستثنائي، والتكاثر الاستثنائي لنوعنا البشري، بالإضافة إلى قصر نظر بيولوجي فطري متأصل فينا. أقرأ كل يوم عن حالة انقراض جديد، وعن تبييض للشعاب المرجانية، وعن اختفاء سمك القد الذي أمسكته الطفلة النحيلة في بحر الشمال بخطاف وخيط، حين كانت توجد الكثير من الأماكن التي يتوافر فيها هذا النوع من الأسماك. أقرأ كذلك عن مشروعات بشرية تدمر العالم الذي تنشأ فيه ببراعة، مثل بناء آبار نفط طموحة في المياه العميقة، ومد طريق عبر ممرات هجرة الحيوانات في حديقة «سيرينجتي» في تنزانيا، وزراعة الهليون في بيرو، واستخدام بالونات الهيليوم في نقل المحاصيل بتكلفة أقل، وتقليل انبعاث الكربون في الوقت الذي تستنزف فيه المزارع بمستويات خطيرة الماء الذي تعتمد عليه الخضراوات والبشر والكائنات الأخرى. أردت الكتابة عن نهاية «ميدجارد» التي نعيش فيها، ولكن ليس بغرض كتابة قصة رمزية أو وعظية. يعتقد الغالبية العظمى من العلماء الذين أعرفهم أننا نتسبب في انقراض نوعنا بسرعة متزايدة. فالأعشاب التي تراها الطفلة النحيلة في الحقول وتعتقد أنها ستظل موجودة إلى الأبد، قد انقرض بالفعل الكثير منها بسبب أساليب الزراعة الحديثة. كذلك لم تعد توجد سحب من طيور الزقزاق. ولم تعد طيور السمنة تهشم الحلزون على الصخور لتأكله، واختفى عصفور الدوري من حدائقنا. إن أفعى «ميدجارد» هي الشخصية المحورية، بطريقة ما، في قصتي. فهي تحب رؤية الأسماك التي تقتلها وتأكلها، أو على وجه الدقة التي تقتلها للمتعة، والشعاب المرجانية التي تسحقها وتبيضها. إنها تسمم الأرض لأن هذه هي فطرتها التي فطرت عليها. حين بدأت العمل على هذه القصة، كان عندي صورة مجازية في ذهني؛ فقد رأيت سفينة الموت «نجلفار»، المصنوعة من أظافر الموتى، كصورة تعبر عما يعرف حاليا باسم «دوامة نفايات شمال المحيط الهادي»، وهي دوامة تتجمع فيها المخلفات البلاستيكية غير القابلة للتحلل في المحيط الهادي، والتي تفوق في حجمها ولاية تكساس. فكرت في كيف نمت تلك الدوامة من الأكواب البلاستيكية التي شعر ثور هايردال بالأسى حين وجدها تطفو في المحيط الفارغ في رحلة «كونتيكي» الاستكشافية التي انطلقت في عام 1947 ميلاديا. ومع ذلك، فقد أردت رواية الأسطورة بمفرداتها الخاصة، تماما كما اكتشفتها الطفلة النحيلة.
نامعلوم صفحہ