رحمان اور شیطان
الرحمن والشيطان: الثنوية الكونية ولاهوت التاريخ في الديانات المشرقية
اصناف
كان أيوب رجلا كاملا ومستقيما، على حد وصف مطلع السفر: «وكان هذا الرجل كاملا ومستقيما، يتقي الله ويحيد عن الشر ... ولد له سبعة بنين وثلاث بنات، وكانت مواشيه سبعة آلاف رأس من الغنم وثلاثة آلاف جمل وخمسمائة فدان بقر وخمسمائة أتان، وخدمه كثيرون جدا. فكان هذا الرجل أعظم بني المشرق» (1: 1-3). وفي أحد الأيام جاء الملائكة ليمثلوا أمام الرب وجاء الشيطان في وسطهم كواحد منهم: «وكان ذات يوم أنه جاء بنو الله ليمثلوا أمام الرب وجاء الشيطان أيضا في وسطهم. فقال الرب للشيطان: من أين جئت؟ فأجاب الشيطان الرب وقال: من الجولان
6
في الأرض والتمشي فيها» (1: 6-7). هنا يتذكر يهوه عبده الصالح أيوب ويأمل ألا يكون الشيطان عازما على مسه بسوء: «فقال الرب للشيطان: هل جعلت قلبك على عبدي أيوب؟ لأنه ليس مثله في الأرض، رجل صالح كامل ومستقيم، يتقي الله ويحيد عن الشر» (1: 8). عند ذلك يبدأ الشيطان مكيدته لأيوب، فيوحي ليهوه بأن تقوى الرجل ليست تعبيرا عن كماله وإنما هي نتاج موقف نفعي، لأن الرب قد أغدق عليه ووهبه ما لم يهب لغيره، فإذا مسه ضر من ربه سوف يكفر ويجدف في وجهه: «فأجاب الشيطان: هل مجانا يتقي أيوب الله؟ أليس أنك سيجت حوله وحول بيته وحول كل ما له من كل ناحية، باركت أعمال يديه فانتشرت مواشيه في الأرض، ولكن ابسط يدك الآن ومس كل ما له فإنه يجدف عليك» (1: 9-11). هنا يظهر بجلاء عدم اتصاف يهوه بواحدة من أهم خصائص الله وهي كلانية المعرفة، لأن الشك يداخله في أمر أيوب ويود معرفة خبيئة نفسه، فينقاد لأحابيل الشيطان: «هو ذا كل ما له في يدك، وإنما إليه لا تمد يدك» (1: 12). وقد كان أحرى به أن يرجع إلى معرفته الكلية، إذا كان لديه منها أدنى نصيب، ليعرف خبيئة نفس أيوب بدل توظيفه للشيطان والاتكال عليه.
أطلق يهوه يد الشيطان في أيوب ينزل به ما شاء من الضربات، ففي يوم واحد سرقت أبقاره وجماله، وقتل اللصوص عبيده جميعا، وسقطت نار من السماء فأحرقت قطعان غنمه، ثم سقط البيت على أولاده فماتوا جميعا: «فقام أيوب ومزق جبته وجز شعر رأسه وخر على الأرض وسجد وقال: عريانا خرجت من بطن أمي وعريانا أعود إلى هناك. الرب أعطى والرب أخذ. فليكن اسم الرب مباركا. وفي كل هذا لم يخطئ أيوب ولم ينسب لله جهالة» (1: 13-22).
يأتي الشيطان للمثول أمام الرب مرة أخرى فيعاتبه الرب على دسيسته لأن أيوب لم يخطئ ولم يجدف رغم ما حل به من مصائب: «إلى الآن هو متمسك بكماله وقد هيجتني عليه لأبتليه بلا سبب» (2: 1-3). فيقترح الشيطان أن يستمر الاختبار، وأن يطال الأذى أيوب في جسمه وصحته بعد أن طاله في أملاكه وعائلته، فينساق يهوه مرة أخرى لإغواء الشيطان الذي يباشر عمله فورا: «فخرج الشيطان من حضرة الرب وضرب أيوب بقرح رديء من باطن قدمه إلى هامته، فأخذ لنفسه شقفة ليحتك بها وهو جالس في وسط الرماد. فقالت له امرأته: أنت متمسك بعد بكمالك؟ ... فقال لها: تتكلمين كلاما كإحدى الجاهلات. أنقبل الخير من عند الله والشر لا نقبل؟ في كل هذا لم يخطئ أيوب بشفتيه» (2: 4-13).
ولكن يهوه وقد أمتعته اللعبة الآن، يزداد إمعانا في تعذيب أيوب الذي تشتد عليه الأوجاع الجسدية والشقاءات الروحية، فيرفع عقيرته بالشكوى وطلب العدل من إله لا يعرف مثل هذا المصطلح: «أبحر أنا أم تنين حتى جعلت علي حارسا؟ إن قلت فراشي يعزيني وينزع كربتي تريعني بأحلام وترهبني برؤى ... كف عني الآن لأن أيامي نفحة. ما هو الإنسان حتى تعتبره وحتى تضع عليه قلبك، وتتعهده كل صباح، وكل لحظة تمتحنه؟ حتى متى لا تلتفت عني ولا تريحني ريثما أبلع ريقي؟ هل أخطأت؟ ماذا أفعل لك يا رقيب الناس؟ لماذا جعلتني عاثورا لنفسي حتى أكون على نفسي حملا؟» (17: 12-20). ولكن هذه الشكوى تذهب هباء، لأن يهوه هو الخصم والحكم، وما من أحد يحاسبه على أعماله: «ذاك الذي يسحقني بالعاصفة ويكثر جروحي بلا سبب، لا يدعني آخذ نفسي ولكن يشبعني مرائر. إن كان من جهة القوة يقول ها أنا ذا، وإن كان من جهة القضاء يقول من يحاكمني؟ ... أنا مستذنب فلماذا أتعب عبثا ... لأنه ليس هو إنسانا مثلي فأجاوبه فنأتي جميعا للمحاكمة. ليس بيننا مصالح يضع يده على كلينا » (9: 29-33). «أفهمني لماذا تخاصمني ... يداك كونتاني وصنعتاني كلي جميعا، أفتبتلعني؟ ... كف عني قبل أن أذهب ولا أعود إلى أرض ظلمة وظل موت» (10: 1-21).
ولكن ادعاء البراءة من جانب أيوب وثباته على توكيد حقه أمام إلهه، لا يزيد هذا إلا تعنتا، وها هو يخاطبه مخاطبة الند للند مستعرضا قوته أمام هذا الإنسان الضعيف القاعد فوق كومة رماد بين أطلال بيته المهدم يحك قروحه بكسرة فخار: «فأجاب الرب أيوب من العاصفة وقال: من هذا الذي يظلم القضاء بكلام بلا معرفة؟ أشدد حقويك الآن كرجل، فإني أسألك فتعلمني. أين كنت حين أسست الأرض؟ أخبر إن كان عندك فهم، من وضع قياسها أو من مد عليها مطمارا؟ على أي شيء قر قواعدها، أو من وضع حجر زاويتها عندما ترنمت كواكب الصبح معا وهتف جميع بني الله؟» (38: 1-6). وبعد خطبة طويلة يتباهى يهوه فيها بكل ما صنعت يداه، يتقدم أيوب بإجابة مقتضبة تنم عن اليأس من الاحتكام لإله يعتبر نفسه فوق الواجبات الأخلاقية: «فأجاب أيوب الرب وقال: ها أنا حقير بماذا أجاوبك؟ وضعت يدي على فمي. مرة تكلمت فلا أجيب، ومرتين فلا أزيد» (40: 2-4).
هذه الإجابة المختصرة تدعو يهوه إلى ثورة عارمة أقوى من الأولى، لأنه يرى في ثناياها اتهاما مبطنا من قبل أيوب: «فأجاب الرب أيوب من العاصفة فقال: الآن أشدد حقويك كرجل. أسألك فتعلمني. لعلك تناقض حكمي!! تستذنبني لكي تتبرر أنت!» (40: 6-8). ثم يعود إلى استعراض قوته مستعيدا مشاهد معروفة تظهر تسلطه على الوحوش والتنانين البحرية من أمثال بهيموث ولوياتان: «هل لك ذراع كما لله وبصوت مثل صوته ترعد؟ ... أتصطاد لوياتان بشص أم تضغط لسانه بحبل؟ ... من يفتح مصراعي فمه؟ دائرة أسنانه مرعبة ... عطاسه يبعث نورا وعيناه كهدب الصبح، من فمه تخرج مصابيح شرار نار تتطاير منه ... إلخ» (40: 9؛ و41: 1-21). بعد أن ينتهي يهوه من خطبته الاستعراضية الثانية هذه، يدرك أيوب أخيرا أن إلهه لا ينطلق في تصرفاته من أية قاعدة منطقية أو أخلاقية، بل من إحساسه بالتفوق والسلطة المطلقة، وأنه لا يطلب من عباده إلا اعترافا تاما بالتفوق، ولا فائدة ترجى من تذكيره بالعدل والإنصاف. وهنا يعمد أيوب إلى صياغة إجابته الأخيرة بطريقة تنسجم مع نظرة يهوه إلى نفسه، وبذلك يفلح في كسب قضيته أخيرا: «فأجاب أيوب الرب فقال: قد علمت أنك تستطيع كل شيء ولا يعسر عليك أمر ... وقد نطقت بما لم أفهم بعجائب فوقي لم أعرفها ... بسمع الأذن قد سمعت عنك، والآن رأتك عيني، لذلك أرفض وأندم في التراب والرماد» (42: 1-5).
لا تحتوي كلمات أيوب الأخيرة على أي عرض لحق أو احتكام لعدل أو تذكير بالقواعد الأخلاقية، بل إنها تبدي خضوعا كاملا وغير مشروط لجبروت إله كان أيوب يسمع به وبعجائبه ولكنه رآه بعد ذلك بأم عينه، لهذا يهدأ غضب يهوه ويقرر الرأفة بأيوب، فيعيد إليه كل ما سلب منه: «وزاد الرب على كل ما كان لأيوب ضعفا، فجاء إليه كل إخوته وكل أخواته وكل معارفه وأكلوا خبزا في بيته، ورثوا له وعزوه عن الشر الذي جلبه الرب عليه. وبارك الرب آخرة أيوب أكثر من أولاه ... وعاش أيوب بعد هذا مائة وأربعين سنة ورأى بنيه وبني بنيه إلى أربعة أجيال، ثم مات أيوب شيخا وشبعان الأيام» (42: 1-17). ولكن من يعيد لأيوب كرامته الإنسانية التي هدرت على يد إله يدعي أنه الذي أسس الأرض ورفع السماء، ويتباهى بقتل التنانين واصطيادها بشص كما السمك، ولكنه لا يملك الحد الأدنى من المعرفة التي تمكنه من الاطلاع على فؤاد أيوب ليتأكد من صحة ادعاء الشيطان. (4) لاهوت الملائكة
على عكس لاهوت الشيطان، الذي بقي ناقصا وغامضا حتى اختتام الأسفار القانونية، فإن لاهوت الملائكة يأخذ بالاتضاح تدريجيا عبر الأسفار، وذلك بتأثيرات رافدينية وفارسية، غير أن ما يميز مفهوم الملائكة في التوراة عن مفهوم الملائكة الفارسي، هو أن الملائكة التوراتية ليست كائنات نورانية خيرة تقف في وجه الشياطين وتكافح الشر في العالم على كل صعيد، بل هي البطانة الخاصة التي تحيط بيهوه الملك، وتحمل عرشه كلما زار الأرض، وتنفذ ما يوكل إليها من مها، فمنها للمهام الخيرة ومنها للمهام الشريرة، وغالبا ما يختلط الفريقان حتى يصعب التمييز بين ملائكة النور وملائكة الظلام. فبعد أن ترك يهوه خيمته التي سكن تحتها في الصحراء ردحا وصار له هيكل مثل بقية الآلهة الكبرى، أخذ المحررون التوراتيون يرسمون له صورة الملك الشرقي المتربع على العرش، والذي يحيط به رهط السماء من الخدم والحشم والأتباع: «قد رأيت الرب جالسا على كرسيه، وكل جند السماء واقفا عن يمينه ويساره» (الملوك الأول، 22: 19). «الرب جالس على كرسي قدسه» (المزمور 47: 8). «الرب قد ملك. لبس الجلال، لبس الرب القدرة ائتزر بها» (المزمور 93: 1). «الرب قد ملك فلتبتهج الأرض ولتفرح الجزائر الكثيرة ... أسجدوا له يا كل الآلهة» (المزمور 97: 1-7).
نامعلوم صفحہ