بسم الله الرحمن الرحيم
صفحہ 30
الحمد لله رب العالمين اعلم أن حديث مالك بن أوس بن الحدثان في قصة تنازع الوصي وعمه العباس عليهما السلام، في وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإتيانهما إلى عمر بن الخطاب ليحكم بينهما فيما تنازعا فيه،وهو حديث أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي وفي رواياتهم اختلاف في ألفاظه(¬1). وقد استوفاها ابن الأثير(¬2)في جامع الأصول قد أوردت عليه إشكالات ، فوجدت في هامش جامع الأصول نسخة السيد العلامة الحسن بن أحمد الجلال(¬3)رحمه الله ما لفظه: " قالت الشيعة هذا مشكل من وجهين:
أحدهما: أنه لا يعرف حديث انتفاء الإرث إلا أبو بكر وحده، ذكر ذلك معظم المحدثين والأصوليين ومقتضى هذه الرواية أن عبدالرحمن ومن ذكر معه يعرفونه.
الثاني: أن عمر ناشد عليا والعباس هل يعلمان ذلك؟. قالا: نعم . فإذا كانا يعلمانه فكيف جاء العباس وفاطمة إلى أبي بكر يطلبان الإرث؟ وهل يجوز أن عليا يعلم ذلك ويمكن زوجته أن تطلب ما لا تستحقه؟ وهل نازعت أبا بكر إلا بإذنه." انتهى.
ثم كتب فيه أيضا: "وأشكل(¬4)مما تقدم أيضا أنهما حضرا يستبينان لا في الميراث بل في صدقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أيهما يتولاها عمالة لا إرثا؟".
ثم كتب السيد حسن رحمه الله:
صفحہ 31
"قلت:لا إشكال في الإشكال، وقد صرح الحافظ البارع الناقد عبد الرحمن بن خراش(¬1)بأنه يتهم مالك بن أوس بن الحدثان بوضع هذا الحديث ذكر ذلك الذهبي(¬2)في ترجمة ابن خراش في تذكرة الحفاظ(¬3). وأما من خرجه من الجماعة، فلا يدل تخريجهم على حقيته فإنه لم يخرج من رتبة الآحاد" انتهى ما في هامش الجامع .
صفحہ 32
ثم اتفق وصول السؤال من السيد العلامة علم الدين القاسم بن محمد السبكي(¬1)، ومن الولد العلامة شرف الدين الحسن بن محمد (الأخفش)(¬2)، عمر الله بعلومهما معالم الدين، سؤالان في حين واحد، يتضمنان استشكال الحديث بما قد تضمن الجواب عن الإشكالين كشف النقاب، وإبانة وجه الصواب حسب الإمكان ، فإن كان صوابا فمن فضل الله من له الامتنان وإن كان خطأ فمن قصور الناظر. والحديث قد أعيا وجه بيان إشكاله القرون الأولى، وصعب عليهم تطبيقه على الطريقة المثلى كما سيعرفه الناظر مما يأتي في الجواب. وأقول: إنه يتبين النظر فيما ذكر، والتحقيق لما رقم وصدر. فأما الإشكال الأول: وهو معرفة الستة المذكورين(¬3) لحديث: "لا نورث" مع ذكرمعظم المحدثين والأصوليين أنه لا يعرف إلا من حديث أبي بكر. ... ... فالجواب: أنه لا يخفى أن البتول عليها السلام والعباس - رضي الله عنه - كما قال الحافظ ابن حجر:"أن العباس أيضا أتى معها إلى أبي بكر" والذي في البخاري(¬1)الاقتصار على فاطمة عليها السلام وأنها سألت أبا بكر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقسم لها نصيبها مما ترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من خيبر وفدك وصدقته بالمدينة، فقال لها أبو بكر:إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا نورث ما تركناه صدقة" فقنعت به، ولم تعاوده في طلب الميراث، وكذلك العباس لا نعلم أنه طلب الميراث بعد ذلك. ...
صفحہ 34
وما يأتي عن ابن تيمية(¬1)أنه لم يطلب أحد من الورثة ميراثه بعد معرفته بالحديث، وإنما طلبا ميراثهما عملا بعموم آية المواريث وأحاديثها فلما روى لهما أبوبكر حديث " لا نورث" رأياه مخصصا لعموم:{وإن كانت واحدة فلها النصف}(¬2)، ولعموم:"ما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر"(¬3). وشاع وذاع ما وقع من طلابهما وجواب أبي بكر عليهما، وعرفه كل من في المدينة أوغالبهم، وكان ذلك في حضرة جماعة من الصحابة كما قال المحقق النجري في شرح القلائد: " أنها أتت فاطمة عليها السلام أبا بكر ومعها جماعة من نسائها وخدم أهلها حتى أتت إليه وهوفي مجلس المهاجرين والأنصار، ثم ذكر رواية أبي بكر لها حديث: "لا نورث". قال: فصدقه سائر الصحابة وشهد بسماعه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعض الحاضرين أيضا." انتهى
فهؤلاء الستة عرفوه من رواية أبي بكر، فإن القصة أمرها لا يخفى عادة وعرفا.
ولما ناشدهم عمر: هل تعلمون ذلك ؟أجابوه بنعم أي نعلمه، والمراد نعلمه من رواية أبي بكر له فلا إشكال.
صفحہ 35
وأما التعبير بالعلم من عمر ومنهم، مع أنه عن خبر أحادي، فالعلم يأتي بمعنى الظن. ومن العلماء من يقول:"خبر الآحاد يفيد العلم" وقد بسطنا ذلك في شرح التنقيح(¬1).
وإذا تقرر هذا، علمت أنه لم يأت الحديث إلا من رواية أبي بكر، وأن غيره لم يستفده إلا من روايته، إلا ما يأتي من دعوى ابن تيمية، أنه رواه جماعة كثيرون، وقد أشار الحافظ ابن حجر إلى الإشكال كما يأتي.
وأما جواب الإشكال الثاني: أنه كيف يأتي العباس إلى أبي بكر يطلبه الميراث؟وكيف يأذن علي - عليه السلام - لفاطمة أن تأتي أبا بكر لذلك، مع علم علي والعباس بحديث" لا نورث" وكيف يطلبان ما لا حق لهما فيه؟ فإنهما قد أقرا عند عمر أنهما يعلمان حديث "لا نورث"، فالجواب: أنه قد سلف قريبا أنهما، إنما علماه من رواية أبي بكر التي شاعت، لا أنهما سمعاه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فالبتول والعباس والوصي عليهم السلام، لم يقع الطلب منهما كذا، ولا الإذن من الوصي للبتول إلا قبل علم الجميع بحديث "لا نورث"، وأنه بعد العلم به لم يطالبه أحد، لأنا نعلم يقينا أنهم لا يطالبون فيما يعلمون أنه لاحق لهم فيه. وكيف وهم أعيان الأمة وسرج كل ظلمة، ولما يأتي من الأدلة.
صفحہ 36
وإذا عرفت هذا، عرفت قول الحافظ ابن حجر في فتح الباري: "أن فاطمة عليها السلام اعتقدت تخصيص العموم في قوله: "لا نورث" ورأت أن منافع ما خلفه صلى الله عليه وآله وسلم من أرض وعقار، لا يمتنع أن تورث عنه، وتمسك أبوبكر بالعموم"(¬1)هذا كلامه، وبهذا أجاب عن الإشكال، بأنه كيف يطلب علي والعباس الميراث من أبي بكر ومن عمر؟ لأنهما قد علما قوله: صلى الله عليه وآله وسلم،"لا نورث"فإنهما: إن كانا سمعاه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكيف يطلبانه من أبي بكر؟ وإن كانا سمعاه من أبي بكر ، أوفي زمنه، بحيث أفاد عندهما العلم بذلك، فكيف يطلبانه بعد ذلك من عمر؟. وقال: إنه إشكال شديد.
ثم قال:" والذي يظهر، والله أعلم أن الأمر في ذلك على ما تقدم من الحديث الذي قبله في حق فاطمة، عليها السلام وأن كلا من علي وفاطمة اعتقدا أن عموم قوله "لا نورث" مخصص ببعض ما يخلفه دون بعض، ولذلك نسب عمر إلى علي والعباس، أنهما كانا يعتقدان ظلم من خالفهما."(¬2)انتهى.
وهوكلام يحتاج إلى النظر فيه، فإنه يعلم يقينا أن الثلاثة لم يسمعوا حديث "لا نورث" منه صلى الله عليه وآله وسلم ، فإن فاطمة رضي الله عنها أتت لطلب ميراثها قبل علمها بحديث"لا نورث"فلما رواه لها أبو بكر قبلته وقنعت، ولم تعاوده في طلب الميراث بعد علمها بحديث "لا نورث" ولم يرو ذلك، أي معاودتها لطلب الميراث من طريق صحيحة ولا ضعيفة.
صفحہ 37
قال النجري في شرح القلائد:"أنه لما قال أبوبكر لفاطمة بعد طلبها الميراث: يا بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: " إنا معاشر الأنبياء لا نورث، ما خلفناه صدقة" فصدقه سائر الصحابة في ذلك، وشهد بسماعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعض الحاضرين أيضا، فسكتت فاطمة انقيادا للحق، وطوعا للشرع." انتهى بلفظه.
قلت: ودل على انقيادها للحق، أنها لم تعاود طلب الميراث، ولاعلم منها تجرما، ولا تظلما ولا ملامة لأبي بكر، فعرفت بطلان تأويل الحافظ وأنها اختلفت هي وأبوبكر في العموم والخصوص، كما يعرف بطلان قوله:"إن عليا والعباس اختلفا هما وأبوبكر في ذلك" ، فإنهما لم يطلبا الميراث بعد معرفة حديث:"لا نورث" حتى يقال: أنهما تأولا، بل لما سمعاه لم يطلبا ميراثا من أبي بكر، ولا سمعاه إلا من روايته، لا أنهما سمعاه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا طلبا من عمر ميراثا كما سنقرره، ولا يتم أنهما تأولاه، وتأولته البتول عليها السلام إلا لونازعوا في ذلك أبا بكر بعد علمهما بحديث "لا نورث" ولا توجد رواية صحيحة ولا سقيمة أنهم نازعوا أبا بكر بعد معرفتهما بحديث "لا نورث" فكيف يقال تأولوا شيئا ما عرفوه؟، فتدبر!.
والعجب من قول الحافظ: " إنه لاختلافهما ، هم وأبو بكر في الحديث ، وأنه أخذ بعمومه، وأخذا هما بالخاص، نسبهما عمر إلى اعتقاد ظلم من خالفهما"(¬1)يريد قول عمر: "تزعمان أنه ظالم- أي أبابكر-" فإن هذا الذي قاله ابن حجر باطل من وجهين:
صفحہ 38
( الأول): أنه لوفرض صحة ما قاله من اختلافهما مع أبي بكر في التأويل، فغاية ذلك أنها مسألة اجتهادية، كل منهم أي أبي بكر وعلي والعباس مأجور غير ملوم، ولا يجوز أن يسمى ظالما، وقد قال عمر:"تزعمان أن أبا بكر ظالم، غادر، فاجر" وحاشاهما أن يعتقدا ذلك في مسألة اجتهادية ظنية.
(الثاني): أن أمير المؤمنين - عليه السلام - (¬1)لما صار خليفة لم يغير ما كان من أبي بكر، ولوكان عنده ظالما فاجرا لما حل له أن يقر ما فعله، ولوجب عليه تغييره، فانظر هذا التفريع الذي فرعه الحافظ على الاختلاف في مسألة ظنية اجتهادية لوصحت، وإلا فإن دعوى ابن حجر أنهما خصصا العموم، هما والبتول دعوى لا دليل عليها، فإنه لم يذكر أحد منهم مخصصا، ولاحام حوله، ولا علم أنهم طلبوا الميراث بعد علمهم بحديث "لا نورث" فأقرب ما يحمل عليه قول عمر أنهما يزعمان أن أبا بكر ظالم أنها كلمات حدة تقع في موقف الخصام، وإن كان الغالب إنما يقع من المتخاصمين، كما وقع من العباس في جناب الوصي أنه ظالم، ولم يجب الوصي على عمه بشيء.
صفحہ 39
قال الحافظ: "ولم أر في شيء من الطرق أنه صدر من علي في حق العباس شيء، بخلاف ما يفهم من رواية أنهما استبا"(¬1). قال المازري(¬2): "أجود ما يحمل عليه أنه قال ذلك- أي العباس- إذلالا(¬3)على علي، لأنه كان عنده بمنزلة الولد، فأراد ردعه عما يعتقد أنه مخطيء فيه"(¬4)انتهى.
وإذا تقرر لك أن البتول لم تطلب الميراث بعد علمها بحديث "لا نورث" فاعلم أنه قد روي أنها طلبت النحلة، ففي شرح النجري على القلائد:
صفحہ 40
" وهو مشهور على الألسنة، أن فاطمة عليها السلام بعد ذلك ادعت أنه ملكها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سهاما في فدك ، وأن أبا بكر طلب منها البينة فأتت بعلي - عليه السلام - وأم أيمن(¬1)، فقال: رجل مع الرجل أو امرأة مع المرأة" انتهى كلام النجري. وإلى هذا أشار المهدي(¬2)عليه السلام في القلائد حيث قال " مسألة: وقضاء أبي بكر في فدك صحيح خلافا للإمامية، وبعض الزيدية لها، كذا لوكان باطلا لنقضه علي عليه السلام ولوكان ظالما لأنكره (بنو)(¬3)هاشم والمسلمون" انتهى بلفظه.
صفحہ 41
قلت: إلا أن رواية النحلة لم نجدها في شيء من كتب المحدثين المعروفة، إلا أنه أخرج عمر بن شبة(¬1)أنه قيل لزيد بن علي - رضي الله عنه - (¬2)أن أبا بكر انتزع من فاطمة فدك، فقال: إنه كان رحيما، وكان يكره أن يغير شيئا تركه صلى الله عليه وآله وسلم،وأتته فاطمة رضي الله عنها، فقالت: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعطاني فدكا، فقال: هل لك بينة ؟ فشهد علي - رضي الله عنه - وأم أيمن . قال لها(¬3): لكن برجل وامرأة تستحقيها، فقال زيد بن علي: "إنه والله لو رجع الأمر فيها إلي لقضيت فيها بقضاء أبي بكر"(¬4)انتهى.
صفحہ 42
وأما الإمام المنصور بالله القاسم بن محمد(¬1)عليهم السلام فجزم بصحة النحلة ورد على المهدي والإمام يحي(¬2)، وقال:"إن قضاء أبي بكر باطل بالإجماع لأنه المنازع فحكم لنفسه"، وأطال في المسألة وليس المراد لنا إلا الإتيان بما في ألفاظ حديث مالك بن أوس من الإشكالات، وليس فيه ذكر النحلة، إنما ألجأنا فيه إلى الخوض ما أفهمه كلام الحافظ ابن حجر، أن فاطمة رضي الله عنها اختلفت هي وأبوبكر في طريقة الاجتهاد، فحمل الحديث على العموم، وحملته على التخصيص، وأنها طالبته بعد معرفة حديث "لا نورث" في الميراث إنما روى مطالبتها له بعد ذلك في النحلة.
صفحہ 43
ثم لايخفى أن قول المهدي: قضاء أبي بكر الخ. تسامح لأنه لم يحكم هنا بشيء ، ولا قضى به، بل طلب تكميل البينة ليحكم، ولم تقم فبقي الشيء على أصله، فلا حكم فيه أصلا.
إذا عرفت أنه لم يطلب الوصي ولا عمه عليهما السلام الميراث بعد علمهما بحديث "لا نورث" وأنهما عرفاه إما من رواية أبي بكر أوفي زمنه، بحيث أفاد عندهما العلم كما قدمناه عن الحافظ ابن حجر، عرفت الإشكال الشديد حقيقة في قول عمر في هذه القصة: "جئتني يا عباس تسألني نصيبك من ابن أخيك، وجاءني هذا- يعني عليا- يسألني نصيبه من امرأته" فإنه ظاهر أنهما أتيا عمر في خلافته يطلبان الميراث.
والحافظ ابن حجر، قد تنبه للإشكال وأجاب عنه، فقال في فتح الباري:
"أما قول عمر:جئتني يا عباس، تسألني نصيبك من ابن أخيك، فإنما عبر بذلك لبيان قسمة الميراث أن لوكان هناك ميراث، لا أنه أراد الغض منهما"(¬1).
قلت: يريد أنهما لم يسألاه الميراث لعلمهما أنه لا ميراث لهما بعد معرفتهما حديث : "لا نورث" وإقرارهما في صدر القصة بمعرفة ذلك بل بعلمه ، فاحتاج ابن حجر إلى تأويل قول عمر للعباس:" تسألني نصيبك من ابن أخيك" لأنه ظاهر في طلب ما علما أنه لا يحل طلبه، فتأوله بأنه عبر عمر بهذا اللفظ يعني لفظ نصيبك لبيان قسمة الميراث لوكان هناك، وأنه يكون للبنت النصف، وللعم النصف.
قلت: وهو تأويل في غاية السماجة، وغاية البعد عن القبول، وكيف يبين لعلي رضي الله عنه كيفية قسمة تركة انحصر وارثها في البنت والعم والزوجات؟ وقد كان عمر يرجع إلى علي - رضي الله عنه - في عدة قضايا ،ويستعينه في عدة وقائع ويقول:
صفحہ 44
"لولا علي لهلك عمر"، ويقول له : "أطال الله بقاءك"، وفي الحديث : "أن عليا باب مدينة العلم"(¬1)، مع أنه تسامح ابن حجر في قوله:"لبيان قسمة الميراث لوكان"، فإنه لوكان هناك ميراث، لما استحق العم والبنت النصفين إلا بعد إخراج ثمن الزوجات.
وإذا بطل ما قاله، فالذي يظهر لي بعد التأمل، أن مراد عمر - رضي الله عنه - "جئتني إلى آخره" أي في أيام أبي بكر وحياته ، ويحتمل أمرين: (الأول): جئتما أبا بكر، ونسب إتيانهما إلى نفسه، لأنه كان أقرب الناس إلى أبي بكر، وأشدهم اتصالا به، وكان شويره ووزيره، فنسب المجيء إليه، إما لأنه كان حاضرا في موقف مجيئهما أو لأنه لما كان بتلك المثابة نسب إتيانهما إليه، كما يقول وزير الملك: جاءنا اليوم كذا، وقلنا كذا، أوجاءني وقلت،مع أن الجائي جاء إلى الملك.
(والأمر الثاني): من الاحتمالين، وهوالذي ظهر لي بعد طول التأمل، أن مراد عمر بقوله: جئتني يا عباس تسألني نصيبك إلى آخر كلامه، أنه إخبار عن مجيء متقدم، وقع عقب وفاته صلى الله عليه وآله وسلم وأن العباس والوصي رضي الله عنهما وصلا إلى عمر يسألانه أن يبلغ أبا بكر مطلوبهما من الميراث، لأن عمر كان أخص الناس بأبي بكر وأقربهم منه مجلسا بمنزلة الوزير والشوير له ، وأن مراد عمر جئتني ياعباس أبلغ مطلبك إلى أبي بكر، ومثله قوله للوصي، وقوله: فقلت لكما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا نورث ما تركناه صدقة" أي قلت مبلغا عن أبي بكر جوابه عليكما، وهذا التأويل هو الذي ينشرح له الصدر، فإنه سالم عن كل إشكال، وإيراد الأدلة قائمة على أنه المراد:
صفحہ 45
( الأول) من الأدلة أنه من أبعد البعيد، بل من المحال عادة أن يسكتا عن طلب الميراث أيام خلافة أبي بكر، ثم يأتيا يطلبانه من عمر بعد وفاة أبي بكر .
(الثاني) من الأدلة أنه لا يجوز أن يقال قد طلباه في حياة أبي بكر، وأجاب عليهما بحديث "لا نورث" ثم يطلبان بعد وفاته من عمر، فإن هذا يرده المعلوم لنا من تقواهما، ومروءتهما، أن يطلبا شيئا قد علما أنه لا حق لهما فيه.
(الثالث) من الأدلة أن هذا الحديث في القصة، مناد بأنهما كانا عالمين عند مجيئهما إلى عمر هذا المجيء الذي في القصة بحديث "لا نورث"،كما قرره عليهما عمر وأقرا به، وقالا: نعم.
(الرابع) إن في صدر الحديث هذا أنهما أتيا يختصمان ويطلبان من عمر أن يقضي بينهما ، ولو كانا وصلا إليه لطلب الميراث لما اختصمافي شيء لم يدخل تحت أيديهما، ولا وصلا إليه.
(الخامس ) من الأدلة قول عمر:"جئتماني وكلمتكما واحدة "أي لا خصومة بينكما، وهذا يناقض قول الراوي في أول حديث القصة، أن العباس قال لعمر: "يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا" فإنه صريح أنهما أتيا إليه هذه المرة وكلمتهما مفترقة، وهما يختصمان، فلابد من حمل قوله جئتماني وكلمتكما واحدة، على مجيء غير هذا قطعا، وهوكما ذكرناه من أنه مجيء أول كان في حياة أبي بكر
(السادس) أنهما لوكانا وصلا إلى عمرهذه المرة لطلب الميراث، لما قال الأربعة من الصحابة الذين حضروا الموقف:"يا أمير المؤمنين، اقض بينهما، وأرح أحدهما من الآخر".
(السابع) من الأدلة أن قول عمر: فقلت لكما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا نورث ما تركناه صدقة" ، فإن هذا الحديث مما تفرد بروايته أبوبكر ، فالمراد أنه قاله عمر مبلغا عن أبي بكر، جوابا عليهما بعد أن أبلغه عمر مطلبهما من الإرث.
صفحہ 46
( الثامن)، منها: تعبيره بالماضي في:"جئتني يا عباس" فإنه مشعر بأنه مجيء متقدم عن هذا المجيء الذي وقع فيه الخصام.
(التاسع) استيفاء عمر لأمر الفيء من أول أمره، وذكر ما كان يصنعه فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وغير ذلك وذكر مجيئهما إليه يسألانه، أي إبلاغ أبي بكر بعد ذكر جميع ما وقع قبل مجيئهما هذه المرة التي هي مرة الخصام.
إذا عرفت ما سقناه من الأدلة، الدالة على أن هذا أقرب التأويل، وأنه يجب المصير إليه،وعرفت كم بينه وبين تأويل ابن حجر الحافظ بقوله:"إنما عبر بذلك لبيان قسمة الميراث" فإن ذلك في نهاية البعد والبطلان.
والحاصل أنه يستفاد من مجموع الروايات أن الوصي وعمه رضي الله عنهما وصلا إلى عمر ثلاث مرات:
(الأولى) في حياة أبي بكر ليبلغه مطلوبهما.
(والثانية) حين بدا لعمر أن يدفع إليهما صدقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويوليهما أمرهما والتصرف فيها ولاية مشتركة بينهما، مع أنه يحتمل أنهما هذه المرة ما وصلا إليه بأنفسهما بل استدعاهما أونحوه.
(والثالثة) هذا المجيء المذكور في القصة مجيء الاختصام، وأنهما يطلبان منه أن يجعل ولاية الصدقة بينهما على جهة استقلال كل واحد بولاية ما هو إليه، وأن يقسمها بينهما فامتنع عمر من ذلك قائلا: "لا أوقع عليهما اسم القسمة، أدعه على ما هو عليه".
صفحہ 47
فإن قيل: إذا كانا قد علما أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لانورث" من إتيانهما إلى عمر، لإبلاغ مطلبهما إلى أبي بكر وجوابه برواية الحديث ، فكيف ساغ للوصي أن يأذن للبتول عليها السلام في إتيانها أبا بكر لطلب الميراث وقد علم أنه لا ميراث لها؟ قلت: كأنه والله أعلم كره إيحاسها بإخبارها أنه لا ميراث لها، وأراد أن تأخذ الحديث من رواية عالية من رواية أبي بكر، فإن قلت : ومن أين عرف أن الوصي وعمه رضي الله عنهما تقدماها في طلب الميراث ؟ قلت عرف بأمرين:
(الأول) أن المعروف أنه يطلب المواريث الرجال، فإنهم هم الذين يخاطبون الأجانب دون النساء وإن الحق لهن ، فهذه أعراف سلفا وخلفا.
(الثاني ) أنها لوكانت البتول ذهبت أولا إلى أبي بكر لطلب الميراث،وأجاب عليها برواية الحديث، لكان من المعلوم أنها تذكر للوصي - رضي الله عنه - ذلك ولو عرف ذلك ما طلب بعد معرفة حديث "لا نورث" كما قررناه آنفا.
وأما الإشكال الثالث في حواشي جامع الأصول(¬1)، وهو: أن تنازع الوصي والعباس رضي الله عنهما إنما كان في ولاية وصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أيهما يتولاها لا في الميراث ،وكأنه يريد قصة عمر، وذكره حديث "لا نورث" وتفصيله أمر الذي أفاء الله على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أول أمره إلى آخره.
صفحہ 48
والجواب: أنه اختلف الناظرون فيما إذاوقع التشاجر بينهما، فقال الحافظ ابن حجر: "إنه قال إسماعيل القاضي(¬1)فيما رواه الدارقطني(¬2)من طريقه لم يكن أي تنازعهما في الميراث، إنما تنازعا في ولاية الصدقة، وفي صرفها كيف تصرف ، وفي السنن لأبي داود(¬3)وغيره أرادا أن عمر يقسمها بينهما لينفرد كل منهما بنظر ما يتولاه، فامتنع عمر من ذلك ، وأراد أن لا يقع عليها اسم القسمة" قال: "وعلى هذا اقتصر أكثر الشراح واستحسنوه، وجزم ابن الجوزي(¬4)، ثم الشيخ محي الدين(¬5)- أي النووي كما يأتي قريبا(¬6)- بأن عليا وعباسا عليهما السلام لم يطلبا من عمر إلا ذلك"(¬7)ولكنه تعقب ذلك الحافظ ابن حجر بقوله:
صفحہ 49
"لكن في رواية النسائي وعمر بن شبة(¬1)من طريق أبي البختري(¬2)مايدل على أنهما أرادا أن يقسم بينهما على سبيل الميراث ، ولفظه في آخره: ثم جئتماني الآن تختصمان يقول هذا: أريد نصيبي من ابن أخي، وهذا يقول: أريد نصيبي من امرأتي"(¬3)انتهى. يريد ابن حجر أنه قيد عمر المجيء بلفظ الآن، أي هذا المجيء.
وأقول: إنه لابد من تأويل هذه الرواية، أوترجيح غيرها عليها فإن فيها نكارة لقوله: "تختصمان" ثم فسر الاختصام بقوله:"يقول هذا أريد نصيبي من ابن أخي... إلى آخره" وهما لوأتيا لطلب الإرث لما صح قوله تختصمان، كما قدمناه أنه لا اختصام عند طلبه، ثم إنه لا يصح طلبهما الميراث من عمر، لما عرف مما قدمناه من الأدلة، ثم قال في تمام رواية النسائي وابن شبة التي نقلها الحافظ أنه قال عمر: "والله لا أقضي بينكما إلا بذلك" . قال ابن حجر:"أي بما تقدم من تسليمها لهما على سبيل الولاية" انتهى.
صفحہ 50