94

فهز الملك رأسه وقال: رويدك يا طاهو رويدك .. إن المجرم لا ينتظركم حتى تذهب للقبض عليه، ولعله الآن ينعم بثمن خيانته في مكان آمن لا يعلم به إلا الكهنة. كيف تمت المكيدة؟ لا أدري كيف، ولكني أستطيع أن أقسم بالرب سوتيس أنهم علموا بالرسالة قبل تحرك الرسول فلم يتوانوا، وبعثوا برسول من لدنهم فجاء رسولي بالرسالة، وجاء رسولهم بالوفد .. خيانة .. نذالة، إني أعيش وسط شعبي كالأسير .. ألا لعنة الآلهة على الدنيا وعلى الناس.

ولاذ الرجلان بالصمت، حزنا وإشفاقا، وكان طاهو يختلس من مولاه نظرات حزينة، وأراد أن يحاول إعادة الأمل إلى ذلك الجو القاتم فقال: ليكن عزاؤنا أننا سنضرب بالضربة القاضية.

فاحتد الملك قائلا: كيف لنا بتسديد هذه الضربة؟! - إن الحكام في طريقهم إلى الأقاليم لحشد الجنود. - وهل تظن أن الكهنة يقفون مكتوفي الأيدي بإزاء الجيش الذي علموا أنه يحشد لسحقهم؟!

وكان سوفخاتب ينوء بهم ثقيل كان يؤمن بما يقول الملك، ولكن أراد أن ينفس عن صدره، فقال وكأنه يتمنى: عسى أن يكون ريبنا وهما، ويكون ما نظنه خيانة محض مصادفة، فتنقشع هذه السحابة الدكناء بأهون الأسباب.

ولكن فرعون ثار على العزاء وقال: لا أزال أذكر صورة أولئك الكهنة المطرقين، كانوا بلا شك ينطوون على سر رهيب، ولما قام رئيسهم ليتكلم، تحدى حماس الحكام باطمئنان، وألقى كلمته بثقة لا حد لها، ولعله الآن يتكلم بعشرة ألسنة، آه! .. الويل للخيانة .. لن يعيش مرنرع الثاني تحت رحمة الكهنة.

وغضب طاهو لحزن مولاه فقال: مولاي .. تحت إمرتك حرس قوي يزن الرجل منه ألف رجل من رجالهم، ويجود بنفسه في سبيل مولاه عن طيب خاطر.

فأعرض فرعون عنه، وارتمى على مقعد وثير مستسلما لأفكار رأسه الساخن، ترى هل يمكن أن يتحقق أمله بالرغم من هذه الأحزان؟ أم يفشل مشروعه إلى الأبد؟ يا لها من ساعة فاصلة في حياته! .. هي مفترق الطرق بين المجد والهوان، والقوة والانهيار، والحب والشقاء. لقد رفض مرة أن يتنازل عن الأراضي حيلة، فهل يجد نفسه يوما مضطرا إلى التنازل عنها محافظة على عرشه؟ آه! .. لن يأتي هذا اليوم، وإن أتى فلن يسام الخسف أبدا. وسيبقى إلى آخر لحظة من حياته كريما مجيدا عزيزا. وتنهد بالرغم منه حسرة، وقال لنفسه آسفا .. آه لو لم يعثر حظي بالخيانة! وقطع عليه صوت سوفخاتب وهو يقول: مولاي، دنا موعد الحفل.

فنظر إليه كمن يصحو من نوم عميق، وتمتم: «حقا.» ثم قام واقفا وذهب إلى الشرفة وكانت تطل على فناء القصر العظيم - وقوة العجلات متراصة به في الانتظار - وتراءى الميدان عن بعد تتلاطم فيه أمواج القوم المحتفلين، فألقى على تلك الدنيا الحافلة نظرة باهتة وعاد إلى مكانه، ثم دخل إلى مخدعه وغاب هنيهة، ورجع لابسا جلد النمر شارة الكهنوت والتاج المزدوج. وتأهبوا جميعا للخروج، ولكن سبقهم بالدخول حاجب من حجاب القصر حيا مولاه وقال: السيد طام رئيس شرطة آبو يستأذن في المثول بين يدي مولاه.

فأذن له الملك ومشيراه لما شاهدوه على وجهه من آي الاضطراب. وحيا الشرطي الكبير مولاه، وقال مبادرا بعجلة واضطراب: مولاي! لقد جئت الآن لأضرع إلى ذاتكم المقدسة أن تعدلوا عن الذهاب إلى معبد النيل!

فخفق قلب الرجلين، وسأل الملك منزعجا: وما الذي حملك على هذا؟

نامعلوم صفحہ