ففكرت مليا، ثم قالت بصوت حالم، وكأنها تحدث نفسها: اخلق العلل وادع الجنود. - إن العلل تخلق نفسها بنفسها.
فأحست بيأس، وأحنت رأسها الحزين، وأغمضت عينيها. ولم تكن ترجو أملا، ولكن لاح لها في الظلام الدامس خاطر سعيد كلمح البصر، فبهتت وذهلت، وفتحت عينيها، فإذا الفرح يتألق فيهما. ودهش الملك، ولكنها لم تباله، وقالت وهي لا تملك عواطفها: وجدت سببا!
فنظر إليها متسائلا، فاستطردت: قبائل المعصايو.
فأدرك قصدها، وهز رأسه يائسا، وتمتم قائلا: لقد عقد رئيسهم معنا معاهدة سلام.
ولكنها لم تيأس، وقالت: من يدري بما يجري وراء الحدود؟ إن لنا هنالك أميرا حاكما من رجالنا، فلنبعث إليه برسالة سرية مع رسول أمين يزعم وجود ثورة وقتال، ويرسل في طلب النجدة، فتسمع صوته الملأ، وتدعو الجنود فتأتيك من الشمال والجنوب، حتى إذا اجتمع لواؤها إليك، وصلت بها جناحك، وأشهرتها سيفا في يدك تعلي به كلمتك وتفرض طاعتك.
واستمع لها فرعون في ذهول ودهشة، وقد عجب أيضا لأنها لم تخطر له ببال. على أنه لم يكن يفكر كثيرا في تكوين جيش قوي لا تدعو إليه الحالة الحربية، واعتقد - وما زال يعتقد - أن تذمر الكهنة لا يمكن أن يبلغ من الخطورة حدا يستدعي معه جيشا كبيرا لقمعه، ولكنه بات يعتقد أن عدم وجود هذا الجيش هو ما يطمع القوم فيه ويغريهم برفع الالتماسات وإعلان الشكوى، ووجد فكرة رادوبيس السهلة فرصة سعيدة، ومال إليها بجامع قلبه. وكان إذا مال إلى شيء تعلقه، وانشغل به واندفع في سبيله برغبة جنونية لا يلوي على شيء. لهذا نظر إلى عيني رادوبيس بفرح وابتهاج، وصاح بصوت قوي: نعم الفكرة يا رادوبيس! نعم الفكرة!
فقالت بفرح غريب: هذا ما يحدثني به قلبي .. وإنها لسهلة التحقيق سهولة تناولي هذه القبلة من فيك الحبيب .. وما علينا إلا الكتمان. - نعم يا حبيبتي .. ألا ترين أن عقلك كقلبك كنز ثمين؟ وحقا ما علينا إلا الكتمان، واختيار رسول أمين، فدعي هذا لي.
سألته: من عسى أن يكون رسولك إلى الأمير كارفنرو ؟
فأجابها ببساطة: سأختار حاجبا من رجالي المخلصين.
وكانت لا تطمئن إلى قصره العظيم، لغير ما سبب معقول، ولكن بدافع من نفور قلبها من مكان تقيم فيه الملكة. ولم تستطع قط أن تعبر عن هواجسها، وتحيرت فيمن عسى أن يكون الرسول إذا لم يكن من رجال القصر .. وزاد من حيرتها أنها أدركت أن افتضاح السر معناه شديد الخطر، حتى ليكبر ذكره على الخاطر. وهمت في لحظة يأس بالعدول عن مشروع حرج شديد الخطورة كهذا، ولكنها ذكرت بغتة الشاب الطفل ذا العينين الصافيتين الذي يعمل بالحجرة الصيفية، وأحست إلى ذكره بطمأنينة غريبة؛ فهو الصفاء وهو السذاجة والطهارة، وقلبه معبد تقدم لها فيه طقوس العبادة صباح مساء .. فهو رسولها .. وهو الأمين. ولم تتردد فقالت له بثقة: دعني أختار الرسول بنفسي.
نامعلوم صفحہ