وطرب هنفر لقول رفيقه، وأخذته نشوة حماس، فمال برأسه ناحية أذن الغانية، وقال: صدق وحق جمالك يا رادوبيس، إن الحياة تمضي كحلم سريع الزوال؛ فأنا أذكر مثلا أني حزنت لموت أبي حزنا بالغا وبكيته مر البكاء، ولكني الآن إذا عاودتني ذكراه أسائل نفسي: أحقا عاش ذلك الإنسان على الأرض؟ أم أنه وهم خادع يتراءى لي في غبش الظلام؟! هكذا الحياة، فماذا أفاد الأقوياء بما أحدثوا فيها من قوة؟ وماذا نال العاملون مما أنتجوا من مال وثراء؟ وماذا اكتسب الحاكمون بما حكموا، وما ساسوا؟! هباء في هباء .. قد تكون القوة حماقة، والحكمة خطأ، والثروة غرورا. أما اللذة فهي لذة، ولا يمكن أن تكون غير ذلك؛ فكل ما خلا الجمال باطل!
فبدا الجد على وجه رادوبيس الفاتن، وقالت له وقد لاحت في عينيها الأحلام: ومن يدريك يا هنفر، فلعل الجمال واللذة من الأباطيل أيضا؟ ألا تراني أمضي العمر في دعة وانتهاب لذة، وتملي الحسن والجمال؟ ومع هذا فكم يطاردني الملل والسأم!
ووجدت رادوبيس أن رامون حتب في حالة سيئة، وطالعت الاستياء في وجه هنفر، وصمت هني، فأشفقت من إيلامهم، وعدت نفسها مسئولة عما أصابهم، فقالت تغير مجرى الحديث: حسبكم أيها السادة .. فمهما قلتم فلن تنفكوا تطلبون الفن والفنانين، كم تحبون يا هؤلاء الخصام! إنكم لتجعلون السعادة نفسها موضوعا للجدل والخصام!
ضاق الحاكم آني بالحديث ذرعا، فقال لها بتوسل: اطردي الخصام بلحن من أغانيك السعيدة.
وكان الجميع يتوقون للسماع والطرب، فضموا توسلاتهم إلى الحاكم، ووافقت رادوبيس، وكانت شبعت من الكلام، واستولى عليها قلق غريب تردد عليها مرات في يومها، وظنت أن الغناء أو الرقص يزيله، فقامت إلى عرشها وأمرت بالعازفات فجئن بالدفوف والقيثارة والناي والونج والصفارة ووقفن وراءها صفا.
ثم أشارت بيدها العاجية، فأخذن جميعا في التوقيع الجميل والنقر الرشيق، يهيئن لصوتها الرخيم جوا فاتنا من الموسيقى والطرب، ثم مضت تخفت أنغام آلاتهن حتى صارت كهمس العاشقين الذاهلين، وأنشأت رادوبيس تغني قصيدة رامون حتب:
يا من تسمعون إلى وعظ الحكماء، أعيروني آذانكم.
لقد شهدت الدنيا منذ الأزل زوال أسلافكم،
الذين عبروا ساحتها عبور الخواطر في رأس الحالم.
وقد شبعت ضحكا من وعدهم ووعيدهم، فأين
نامعلوم صفحہ