فوضعت يدها على ذراعه، وأرادت أن تجذبه إلى الديوان، ولكنه تخلص منها، ومضى يذرع الحجرة جيئة وذهابا، غاضبا ساخطا، فقالت بلهجة تنم على الأسف العميق: لا تصور الأمور لنفسك على هذا النحو .. واذكر دائما أن الكهنة رعاياك المخلصون، وأن أراضي المعابد كانت منحا تنازل عنها أجدادنا ولكنها اكتسبت صفة الحقوق الكاملة، وأنت تريد يا مولاي أن تستردها، فمن الطبيعي أن يقلقوا.
قال الملك الشاب بحدة: أريد أن أشيد قصورا ومقابر، وأن أتمتع بحياة سعيدة عالية، ولا يقف في سبيل رغباتي إلا أن نصف أراضي المملكة في أيدي أولئك الكهنة .. أيجوز أن تعذبني رغباتي كالفقراء؟ ألا سحقا لهذه الحكمة الفارغة، أوتعلمين ماذا حدث اليوم؟ .. لقد هتف نفر منهم في أثناء سير الموكب باسم ذلك الرجل خنوم حتب، أرأيت أيتها الملكة؟ .. إنهم يتحدون فرعون عينا لعين!
فاستولت الدهشة على الملكة، واصفر وجهها الوديع، وتمتمت بكلمات غير مسموعة، فقال الملك بلهجة ساخرة مريرة: ماذا دهاك أيتها الملكة؟
أحست بلا شك بانزعاج واستياء، ولولا أن الملك غاضب إلى حد الثورة لما حاولت أن تخفي غضبها، ولكنها تسلطت على انفعالاتها بإرادة من حديد، وقالت بهدوء: دع هذا الحديث إلى وقت آخر؛ فإنك على وشك استقبال رجال مملكتك وعلى رأسهم خنوم حتب، وينبغي أن تقابلهم المقابلة الرسمية الكاملة.
فنظر فرعون إليها نظرة غامضة، وقال بسكينة مخيفة: إني أعرف ما أريد، وما ينبغي أن أفعل.
وفي الوقت المحدد، استقبل الملك رجال مملكته في البهو الرسمي العظيم، واستمع إلى خطب الكهنة، وآراء حكام الأقاليم، ولاحظ كثيرون أن الملك «لم يكن راضيا»، وحين تفرق الجمع استبقى الملك رئيس وزرائه وحده واختلى به زمنا غير يسير، وملكت الحيرة النفوس، ولكن لم يجرؤ أحد على التساؤل، ثم ظهر رئيس الوزراء، وحاول كثيرون أن يقرءوا صفحة وجهه، لعلهم يعثرون على بينة، ولكن وجهه كان جامدا كالصخر لا يبين.
وأمر الملك مستشاريه المقربين، سوفخاتب كبير الحجاب وطاهو رئيس الحرس، أن يسبقاه إلى موضع سمرهم على شاطئ بركة الحديقة، ودار في الممرات المعشوشبة، يبدو على وجهه الأسمر ارتياح، كأنه أرضى الغضب العنيف الذي طالبه بالثأر منذ حين قليل، فمشى الهوينى يستروح الشذا الطيب الذي تبعث إليه به الأشجار تحية وسلاما، وينقل ناظريه بين الأزهار والثمار، ثم اتخذ سبيله إلى البركة الغناء، فوجد رجليه في انتظاره؛ سوفخاتب بجسمه النحيل الطويل، ورأسه الأشيب، وطاهو بجسمه القوي الفولاذي الذي تربى على متون الخيل والعجلات.
وحاول كلا الرجلين أن يقرأ صفحة وجه الملك بإمعان ليستكنه باطنه ويطمئن على السياسة التي يشير باتباعها نحو الكهنة، وكانا سمعا الهتاف الجريء الذي عد في جميع الدوائر تحديا لسلطة فرعون، وكانا يتوقعان له رجعا شديدا في نفس الملك الشاب، وعلما بعد ذلك باستبقاء فرعون لرئيس وزرائه بعد انتهاء التشريفات، فخفق قلباهما، وأشفق سوفخاتب من عواقب غضبة الملك؛ لأنه كان ينصح دائما بالتؤدة والأناة والصبر، وبمعالجة مشكلة الأراضي بمنتهى الاعتدال، أما طاهو فكان يرجو أن يدفع غضب الملك إلى الانضمام إلى رأيه، فيصدر أمره بنزع أملاك المعابد وينذر الكهنة إنذارا نهائيا.
وجعل الرجلان المخلصان ينظران إلى وجه مولاهما، يرجوان، ويكابدان قلقا أليما، ولكن فرعون كتم عواطفه، وطالعهما بوجه كأبي الهول. وكان يعلم بما تضطرم به نفساهما، وكأنه رغب في أن يمد لهما حبل الوساوس، فجلس على أريكة في هدوء، وأمرهما بالجلوس، وسرعان ما عاودت وجهه هيئة الجد والاهتمام، فقال: يحق لي اليوم أن أغضب وأن أتألم.
وفهم الرجلان ما يعني، ورن في أذنيهما الهتاف الجريء مرة أخرى، فرفع سوفخاتب يديه تألما وإشفاقا، وقال بصوت متهدج: تعالى مولاي عن دواعي الألم والغضب!
نامعلوم صفحہ