فنظرت الجارية إلى حطام القارورة، وقالت بدهشة: من أين لمولاتي بالسم؟
فهز منكبيه يأسا، وقال: أتيت لها به بنفسي.
فتولاها الغيظ، وصاحت به: كيف تأتي به يا شقي؟! - لم أكن أدري أنها تريده لتزهق به نفسها، لقد خدعتني كما فعلت بي الآن.
فتحولت عنه يائسة، وأفحمت في البكاء، وانكبت على قدمي مولاتها تقبلهما وتغسلهما بدموعها، وغشي الشاب ذهول، وتفجرت عيناه، وثبت على وجه رادوبيس الساكن سكون الأبدية، وكان يعجب في ذهوله كيف يلحق العدم بمثل هذا الجمال الذي لم تشرق الشمس على مثله من قبل، وكيف تسكن الحيوية الفائضة الملتهبة، وتكتسي بهذا الإهاب الشاحب الذابل الذي تهم به عوامل الخراب؟ تمنى لو أن يراها لحظة خاطفة وقد ردت إليها نسمة الحياة، فأبدت عن تثنيها الرقيق، وأشرقت بوجهها ذي البهاء ابتسامة السعادة، وانبعثت من عينيها نظرة الحب والفتون، ثم يموت فتكون آخر عهده بالدنيا.
وأزعجه نحيب شيث أيما إزعاج، فانتهرها قائلا: أمسكي عن هذا.
وأشار إلى قلبه، ثم استدرك: هنا حزن جليل، أجل من البكاء والنحيب.
وبقي في نفس الجارية أمل ضعيف يخفق، فنظرت إلى الشاب خلل دموعها، وقالت بتوسل: ألا يوجد رجاء يا سيدي؟ عسى أن يكون ما بها غيبوبة شديدة!
ولكنه قال بصوته الحزين: ما من رجاء ولا أمل، ماتت رادوبيس، مات الحب، وتبددت الأوهام .. كم عبثت بي الأحلام والأوهام! .. أما الآن فقد انتهى كل شيء، وأيقظني من غفوتي الموت الرهيب ..
وانقصف آخر شعاع للشمس، وانغمس وجهها القاني في عين حمئة، فزحفت الظلمة تغشى الكون في ثوب حداد. ولم تنس شيث في حزنها واجبها نحو جثة مولاتها، وأدركت أنها لن تستطيع أن توفيها حقها من الإجلال والصون في بيجة المحاطة بأعدائها والمتربصين للانتقام منها وأفضت بمخاوفها إلى الشاب الحزين الذي تحترق نفسه على كثب منها، وطلبت إليه أن يحملا الجثة إلى بلدة أمبوس، وهناك يدفعان بها إلى أيدي المحنطين، ويودعانها مقبرة أسرة بسار، ووافق بنامون على رأيها بقلبه ولسانه، فنادت شيث بعض الجواري ، وأتين بهودج، ووضعن الجثة عليه وسجينها .. ورفع العبيد الهودج إلى السفينة الخضراء التي انحدرت به نحو الشمال.
وجلس الشاب عند رأس الجثة على مقربة من شيث، وقد شمل المقصورة سكون عميق .. في تلك الليلة الحزينة، والسفينة تنساب مع المياه المصطخبة صوب الشمال، تاه بنامون في وديان قصية من الأحلام، ومرت حياته أمام ناظريه في صور متعاقبة، عرضت آماله وأحلامه وما كابد من ألم ورجاء، وما ظن يوما أنه نصيبه من السعادة والهناء والعيش النضير، ثم تنهد من أعماق قلبه المكلوم، وثبت عينيه على الجثة المسجاة التي ارتطمت عليها آماله وأحلامه، فتحطمت وتناثرت، كأوهام بددتها اليقظة.
نامعلوم صفحہ