وذكرت بسرعة خاطفة أنه لم يتعود أن يرسل رسولا بين يديها فاعتورها القلق وقالت بسرعة قبل أن يبدأ سوفخاتب كلامه: ولكن لماذا بعثك إلي؟
فقال الوزير بجمود: صبرا يا سيدتي؛ فلم يرسلني أحد، والحقيقة الأسيفة أن مولاي أصيب.
ووقعت هذه الكلمة الأخيرة من أذنيها موقعا غريبا داميا، فحملقت في وجه الوزير الكئيب فزعة، وصدرت عن صدرها آهة زفرة حرى مرتعشة، فقال سوفخاتب الذي أفقده الحزن شعوره: صبرا صبرا .. سيصل مولاي محمولا على هودجه كمشيئته. لقد أصيب بسهم في هذا اليوم المنكود الذي غدا عيدا وأضحى مأتما مروعا.
ولم تحتمل المكوث في الحجرة، فجرت إلى الحديقة كالفرخة الذبيح، ولكنها لم تكد تجاوز العتبة حتى سمرت قدماها في الأرض، وثبتت عينيها على الهودج يحمله العبيد متجهين صوب الحجرة، فأفسحت لهم الطريق، وهي تضع يديها على رأسها المضطرب من هول المنظر، ثم تبعتهم على الأثر. وقد وضعوا الهودج في حرص شديد وسط الحجرة وانسحبوا خارجا، وخرج في ذيلهم سوفخاتب، وخلال المكان لها وله .. واندفعت إلى الركوع إلى جانبه، وشبكت أصابع يديها وشدت عليها بقسوة وبحالة عصبية عنيفة، ونظرت إلى عينيه الساهمتين الذابلتين، وقد انقطعت منها الأنفاس، وجرى بصرها الزائغ على صدره المضطرب، فرأت بقع الدم والسهم النافذ، فاقشعر بدنها بحالة ألم جنوني، وصاحت بصوت متقطع من العذاب والفزع: أصابوك .. يا للهول!
وكان نائما في تراخ وهمود، وقد أتت الرحلة الصغيرة على بقية قواه الآخذة في الانحلال السريع، ولكنه حين سمع صوتها ورأى وجهها الحبيب دبت فيه نسمات حياة رقيقة، ولاح في عينيه المظلمتين ظل ابتسامة خفيفة.
ولم تكن تراه إلا هائجا مفعما بالحياة كالعاصفة، فكادت تجن، وهي تشاهده كمن شاخ وذوى منذ دهر طويل، وألقت نظرة نارية على السهم الذي أحدث كل هذا، وقالت بتألم : كيف تركوه في صدرك؟! هل أستدعي الطبيب؟!
فاستجمع قواه الخائرة المشتتة، وقال بصوت ضعيف: لا فائدة.
فلاحت في عينيها نظرة جنونية، وقالت بصوت العتاب: لا فائدة يا حبيبي .. كيف تقول هذا؟ .. هل هانت عليك حياتنا؟!
فمد يده في ضعف شديد حتى مست كفها الباردة، وهمس قائلا: هي الحقيقة يا رادوبيس، لقد جئت لأموت بين يديك في المكان الذي أحببته أكثر من أي مكان في الدنيا .. فلا تندبي حظنا، وامنحيني صفاء. - مولاي، أتنعى إلي نفسك؟! يا لساعة الأصيل هذه! كنت أنتظرها يا حبيبي بنفس أضناها الشوق وغرر بها الأمل، وكنت أرجو أن تجيء حاملا إلي بشرى الفوز، فجئت حاملا إلي هذا السهم .. كيف لي بالصفاء؟!
فازدرد ريقه بصعوبة، وقال بتوسل وبصوت كالأنين: رادوبيس تناسي هذا الألم وادني مني، أريد أن أنظر إلى عينيك الصافيتين.
نامعلوم صفحہ