ومضت الجند تخلي مواقعها الحصينة منفذة الأمر الرهيب، وتنزل عن الأسوار والأبراج وتنطوي في نظام إلى ألويتها، ثم تعدو بسرعة إلى الثكنات يتقدمها ضباطها. وما لبثت أن خلت الأسوار، وخلا الفناء والممرات حتى من قوات الحرس العادي المنوط بها واجب الحراسة في أوقات السلام.
وظل الملك واقفا عند مدخل الممر وإلى يمينه سوفخاتب. وعاد طاهو لاهثا، ووقف إلى يساره، وقد بدا وجهه كالشبح المخيف. وكان كلا الرجلين يرغب في التوسل إلى الملك برغبة حارة، ولكن ما بدا على وجهه من الجمود والصلابة والشدة، بدد شجاعتهما، فلازما الصمت مرغمين. والتفت الملك إليهما، وقال بهدوء: لماذا تنتظران معي؟
فارتعب الرجلان أيما ارتعاب، ولم يستطع طاهو إلا أن ينطق بهذه الكلمة بتوسل وإشفاق: مولاي.
أما سوفخاتب فقال بهدوء غير عادي: إذا أمرني مولاي بالتخلي عنه فسأصدع بأمره لا محالة، ولكني سأزهق نفسي في الحال.
فتنهد طاهو ارتياحا كأنه ظفر بالحل الذي أعياه طلبه، وتمتم قائلا: أحسنت أيها الرئيس.
وسكت فرعون، ولم يقل شيئا.
وفي أثناء ذلك كانت توجه إلى باب القصر الكبير ضربات شديدة قاصمة، ولم يتجاسر أحد على اعتلاء الأسوار كأنهم توجسوا خيفة من انسحاب الحرس المفاجئ، وتوهموا أنه ينصب لهم شراكا قاتلا، فوجهوا كل قوتهم إلى الباب، ولم يحمل الباب ضغطهم زمنا طويلا فتزعزعت المتاريس وارتج بنيانه وهوى بقوة عنيفة رجت الأرض رجا، واندفعت الجموع متدفقة صاخبة، وانتشروا في الفناء كغبار ريح الصيف. وكانوا يتدافعون بعنف، وكأنهم يتقاتلون، ويتباطأ المتقدمون منهم ما استطاعوا خشية خطر غير منظور. وما زالوا في تقدمهم حتى شارفوا القصر الفرعوني، ولمحت أعينهم الواقف عند مدخل الممر، وعلى رأسه تاج مصر المزدوج فعرفوه، وأخذوا بمنظره ووقفته وحيدا لهم. وتشبثت أقدام الذين على الرءوس بالأرض، ونشروا أذرعهم يوقفون التيار الجارف المنصب وراءهم، وصاحوا في الجموع: مهلا .. مهلا.
ولعب أمل ضعيف بقلب سوفخاتب حين رأى الذهول يستولي على قادة الثائرين فيشل أعضاءهم، ويزيغ أبصارهم، وتوقع قلبه المتهالك معجزة تخلف ظنه الأسود. ولكن كان يوجد بين الثائرين دهاة يشفقون مما يرجو قلب سوفخاتب، وخشوا أن ينقلب فوزهم هزيمة، ويخسروا قضيتهم إلى الأبد، فامتدت يد إلى قوسها، ووضعت سهما في كبده، وسددته إلى فرعون وأطلقته، فانطلق السهم من وسط الجموع واستقر في أعلى صدر الملك دون أن تمنعه قوة أو رجاء، وصرخ سوفخاتب كأنما هو الذي أصيب، ومد يديه يسند الملك فالتقتا مع يدي طاهو الباردتين. وأطبق الملك شفتيه فلم يخرج منهما أنين، ولا آهة، وتماسك بما بقي فيه من قوة ليحفظ توازنه وقد تقطب جبينه، وارتسم عليه الألم، وأحس سريعا بخور وضعف، وأظلمت عيناه فترك نفسه لأيدي رجليه المخلصين.
وساد الصفوف الأمامية سكون رهيب، وعقد الألسنة صمت ثقيل، وهلعت الأعين، وأرسلت نظرات زائغة إلى الرجل العظيم الذي يعتمد على رجليه تتحسس يديه موضع السهم في صدره فيلطخها الدم الساخن المتدفق بغزارة، وكأنهم لا يصدقون أعينهم، أو كأنهم هاجموا القصر لغير هذه الغاية.
ومزق السكون صوت من المؤخرة يسأل: ماذا هنالك؟
نامعلوم صفحہ