بسم الله الرحمن الرحيم- وبه ثقتي:

أما بعد حمد الله، والصلاة على محمد خير خلقه وآله، فإني رأيت مباحث النصارى «1» المتعلقة بعقائدهم؛ ضعيفة المباني، واهية القوى، وعرة المسالك، يقضي المتأمل من عقول جنحت إليها غاية عجبه، ولا يقف من تعقيدها على اليسير من إربه، لا يعولون فيها إلا على التقليد المحض، عاضين [بالنواجذ] على ظواهر أطلقها الأولون، ولم ينهض بإيضاح مشكلها- لقصورهم- الآخرون، ظانين بأن ذلك هو الشرع الذي شرعه لهم عيسى عليه السلام، معتذرين عن اعتقادها/ بما ورد من نصوص يعتقدون أنها قاهرة للكفر، غير قابلة للتأويل «2»، وأن صرفها عن ظواهرها عسيرة «3». وهم في ذلك طائفتان:

صفحہ 25

- طائفة- وهم الأكثر- لم يمارسوا شيئا من العلوم التي يقف بها الناظر على استحالة المستحيل، فيجزم باستحالة وجوده، وإيجاب الواجب، فينفي عدم وقوعه وإمكان الممكن، فلا محالا لازما لطرفي وجوده وعدمه، بل ارتسمت في أذهانهم صور منذ صغرهم، واستمرت بهم الغباوة «1» إلى أن صار ذلك فيهم ملكة.

فهذه الطائفة برؤها من دائها عسير/.

وطائفة لهم أدنى معقول، وقد ألموا بيسير من العلوم، فتجدهم ناكصين عن هذا المعتقد، لا يسامحون أفكارهم بمقاربته، يعولون تارة على تقليد الفيلسوف «2» في مسألة الاتحاد لإعظامهم ما يؤدي إليه من هدم قواعد تظافر على ثبوتها صرائح العقول، فارين من هذه المعضلة إلى التقليد المحض، معتقدين أن الفيلسوف قد حاول العلوم الخفية، فأبانها جلية مبرهنة. ظانين بأن من هذا شأنه جدير بأن يعول على أقواله، وتقلد «3» في المعتقدات! فلذلك ينفصلون عن مسألة الاتحاد «4» بردها إلى مسألة تعلق النفس بالجسد/.

ولو راجع هؤلاء المساكين عقولهم وتركوا الهوى والتعصب، لعلموا أنهم قد نكبوا عن محجة الصواب، وأخطئوا سبيل الحق لوجوه:

أحدها: أنهم إن جعلوا ذلك من قبيل القياس، فغلط، لأن القياس «5»:

«رد فرع إلى أصل بعلة جامعة هي مناط الحكم».

صفحہ 26

وأي علة عقلها هذا القائل مقتضية لحقيقة التعلق الذي يقول به الفيلسوف، ثم بعد ذلك يعديها إلى ذات الباري «1» ليصح له القياس.

وإن جعل ذلك من قبيل التشبيه والتمثيل «2» فغلط أيضا، لأن المشبه به لا بد أن يكون/ معلوما متصورا حتى يكون العلم به مقتضيا للعلم بالمشابهة.

والقائل منهم «3» بهذه المقالة لو بذل جهده على أن يأتي بأدنى شبهة تقفه على حقيقة النفس، وحقيقة التعلق، القائل بهما الفيلسوف، لأقر بالعجز عن إدراك ذلك، فكيف يصح له القياس والحقائق غير معلومة له؟!

صفحہ 27

ثم إن مثل هذا القياس لا يسامح الفروعي نفسه في استعماله، بل هو من الأقيسة [المهجورة] «4»، المسمى بقياس التعقيد، وهو أن يحاول إثبات حكم خفي، فيثبته بما هو أخفى منه، أو بما يحتاج في إثباته إلى إعمال الفكر واستخراجه/ بالأدلة الغامضة، كالنفس، القائل بها الفيلسوف، التي لا يتخيل وجودها إلا بتعقيدات وغموض في المأخذ، وإذا كان هذا «5» مهجورا في الفروع المبنية على أيسر ظن، فكيف يعول عليه في الأصول المتعلقة بذات واجب الوجود «1»؟! وكيف يتم ادعاء ذلك، ومناط الحكم لو عثر عليه، لاقتضى أن لا يكون للإله تعلق بذات أحد من البشر على حد تعلق النفس بالبدن، لأنهم يقولون: إن كل نفس تعلقت ببدن فشرط تعلقها به أن يكون بينها وبينه مناسبة وملاءمة، لأجلها كان التعلق.

والإله- جل اسمه- منزه عن مثل ذلك/. ثم لو سلم لهم ذلك، وأن التعلق الذي حاولوه متصور على وفق الآراء الفلسفية، لم يحصل لهم به غناء ولم ينهض ذلك بمقصودهم في إثباتهم الإلهية لعيسى عليه السلام.

لأن الفيلسوف يقول: إن للنفس بالبدن تعلقا تدبيريا، وأن اللذة والألم يحصلان لهما بواسطة تعلقها به، إذا انفعلت القوة الحساسة بالملائم والمنافي، ومحال أن يراد هذا التعلق بجملته مع ما ذكر، لأن حصول اللذات لذات الباري محال.

بقي أن تؤخذ هذه النسبة التدبيرية مجردة عن حصول اللذات، وهذا أيضا غير مجد، لأن الخالق مدبر/ لكل فرد من أفراد العالم، وله إلى كل مخلوق نسبة تدبيرية.

فإن قيل: المراد نسبة ظهر أثرها في خرق العوائد؛ كإحياء الميت وغير ذلك، فيدل إذ ذاك على المقصود.

فالجواب: أن مثل هذه النسبة التي يتمكن المتصف بها من الإتيان بخرق العوائد، ثابتة لغير عيسى عليه السلام، فإنهم معترفون بأن موسى عليه السلام قلب العصا ثعبانا.

وهل إحياء الميت إلا عبارة عن اتصاف الجماد بالحيوانية؟

صفحہ 28

بل هذا أدل على المعجز «2»، لأن جعل ما لم يتصف بالحياة قط حيا؛ أدل على القدرة من إعادة الشيء إلى حالته الأولى/. ثم انشقاق البحر وجعل كل فرق كالطود العظيم، من غرائب المعجزات.

وقد شهدت التوراة التي يصدقونها بأن موسى عليه السلام أخرج يده برصاء كالثلج، ثم أعادها إلى لون جسده.

وفي أسفار الملوك والقضاة، وهو من جملة كتبهم العتيقة التي تقرأ في كنائسهم، أن إيليا واليشع تلميذه أقاما الميت، وإحياء إيليا لابن الأرملة عندهم غير منكور، ووقوف الشمس أيضا ليوشع إلى أن أخذ المدينة- أريحا- من بدائع المعجزات.

ثم لما من الأنبياء؛ أنبياء لم ترسل «1»، فما المانع أن تكون هذه النسبة ثابتة/ لكل واحد منهم، لكنها لم تظهر لعدم الرسالة المحوجة إلى البراهين الصادرة عنها؟!

دقيقة يجب التنبيه عليها:

لفظ الكتاب العزيز: واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء «2»، ولفظ التوراة: «وهنا يا ذو مصورا عث كالشولغ».

وتفسير هذا اللفظ العبراني بالعربية: «وهذه يدك برصاء كالثلج».

صفحہ 29