والتبيان في هذا بيننا وبينه، وما ينبغي أن يشتغل به منه، فإنما هو في تثبيت الصانع ورسوله، لا فيما أنكر وفنن فيه من هذيان قيله، فإذا ثبتت الحجة فيهما، وأقمنا دليل الحق عليهما، علم بعد إقامة الدليل، أن الحكمة ثابتة موجودة في التنزيل، جهل ذلك أو علم، أو توهم فيه أولم يتوهم. فدليل معرفة الله الذي لا يكابر، وشاهد العلم بالله الذي لا يناكر، ما أرى وأوضح مما تراه أعين الناظرين، وتحيط بالتحديد فيه أفكار المفكرين، من الأشياء كلها في تأثير مؤثرها، وتصوير صور مصورها، وتناهي أقطار موجودها، وظاهر افتطار محدودها، وما ذكره منها ذاكر ووصفه واصف، أو تصرف بوصفه من الواصفين لها متصرف.
ففيه لمن نظر وأنصف، وعدل في النظر فلم يحف، دليل على حدوث الأشياء مبين، وشاهد ثابت - لا يدفع - مكين، إذ الأشياء كلها محدودة، والآثار في قائمها موجودة، ومعلوم بأن التحديد إذا وجد لا يكون إلا من محدد غير محدود، ولا أثر إذا عوين إلا من مؤثر موجود، ولا تصوير مصور إلا من مصور، ولا فطرة مفطور إلا من مفتطر، كما لايكون كتاب وجد إلا من كاتب، ولا تركيب إذا كان إلا من مركب، ولا فعل ما كان إلا لفاعل، ولا مقال قيل إلا من قائل، فالله تعالى مؤثر كل مؤثر، والفاطر جل ثناؤه لكل مفتطر، لا ينكره إلا مناكر، ولايأبى الاقرار به إلا مكابر، والمناكر فغير منكر، والمكابر فغير مستنكر .
فلمن أنهج إلى معرفته السبيل، وأوضح بمنته الدليل، الشكر على إبانة التعريف، ووضوح دلالة التأليف، التي لا يضل عنها إلا متضالل، ولايجهل معلومها إلا متجاهل، ولا يبور على الله فيها إلا خاسر، ولا يجور عن قصدها إليه إلا جائر .
صفحہ 175