ظهور أبيقور في اليونان
ظهر أبيقور (¬1) الدهري وأتباعه الدهريون في بلاد اليونان، متسمين بسيماء الحكماء، وأنكروا الألوهية، وإنكارها أشد المنكر، ومنبع كل وبال وشر، كما يأتي بيانه.
ثم قالوا: ما بال الإنسان معجب بنفسه، مغرور بشأنه، يظن أن الكون العظيم إنما خلق خدمة لوجوده الناقص، ويزعم أنه أشرف المخلوقات، وأنه العلة الغائية لجميع المكونات؟! ما بال هذا الإنسان قاده الحرص - بل الجنون والخرق - إلى اعتقاد أن له عوالم نورانية، ومعاهد قدسية، وحياة أبدية، ينقل إليها بعد الرحلة من هذه الدنيا، ويتمتع فيها بسعادة لا يشوبها شقاء، ولذة لا يخالطها كدر، ولهذا قيد نفسه بسلاسل كثيرة من التكاليف، مخالفا نظام الطبيعة العادل، وسد في وجه رغبته أبواب اللذائذ الطبيعية، وحرم حسه كثيرا من الحظوظ الفطرية، مع أنه لا يمتاز عن سائر الحيوانات بمزية من المزايا في شأن من الشؤون، بل هو أدنى وأسفل من جميعها في جبلته، وأنقص من كلها في فطرته، وما يفتخر به من الصنائع فإنما أخذه بالتقليد عن سائر الحيوانات، فالنسج مثلا نقله عن العنكبوت، والبناء استن فيه بسنة النحل، ورفع القصور وإنشاء الصوامع، أخذ فيه مأخذ النمل الأبيض، وادخار الأقوات، حذا فيه حذو جنس النمل، وتعلم الموسيقى من البلبل... وعلى ذلك بقية الصنائع.
فإن كان هذا شأنه من النقص، فليس من اللائق به أن يقذف بنفسه في ورطات المتاعب والمشاق عبثا، ومن الجهل أن يغتر بهذه الحياة التي لا تمتاز عن حياة سائر الحيوانات، بل ولا جميع النباتات، وليس وراءها حياة أخرى في عالم آخر، بل أجدر به أن يلقي ثقل التكاليف عن عاتقه، ويقضي حق الطبيعة البدنية من حظ اللذة، ومتى سنح له عارض رغبة حيوانية، وجب عليه تناوله من أي وجوهه، وعليه الا ينقاد إلى ما تخيله له أوهام الحلال والحرام، واللائق وغير اللائق...
لبئس ما سولت لهم أنفسهم - نعوذ بالله - فتلك أمور وضعية - في زعمهم - تقيد بها الناس جهلا، فلا ينبغي لابن الطبيعة أن يجعل لها من نفسه محلا.
صفحہ 8