هذا الوباء المهلك، والطاعون المجتاح - أعني النيتشريين - لا يصيب أهل الحياء؛ لامتناع نفوسهم عن مشاكلة البهائم، وإبائها عن وضع أقدامها في منازل الحيوانية المحضة، وأنفتها من الاشتراك في الأموال والأبضاع، وإباحة التناول مما يختص بالغير منها.
ولهذا عمد هؤلاء المفسدون إلى خلة الحياء ليزيلوها أو يضعفوها، فقالوا: إن الحياء من ضعف النفس ونقصها، فإذا قويت النفوس، وتم لها كمالها، لم يغلبها الحياء في عمل ما كائنا ما كان، فمن الواجب الطبيعي - في زعمهمم - أن يسعى الإنسان في معالجة هذا الضعف - الحياء - ليفوز بكمال القوة - قلة الحياء - وبهذه الدسيسة يخلطون بين الإنسان والهمل (¬1) ، ويمزجونه بالهامجات (¬2) من النعم، ويوحدون بين حاله وتصرفه، وبين حال الدواب والأنعام، من إباحة كل عمل، والاشتراك في كل شهوة، ويهونون عليه إتيان ما تأتيه في نزواتها.
ولا يخفى أن الأمانة والصدق منشؤهما في النفس الإنسانية أمران: الإيمان بيوم الجزاء، وملكة الحياء.
وقد ظهر: أن من أصول مذاهب هذه الطائفة إبطال تلك العقيدة، ومحو هذه الملكة الكريمة، فيكون تأثير آرائهم في إذاعة الخيانة وترويج الكذب، أشد من تأثير دعوة داع إلى نفس الخيانة والكذب، فإن منشأ الفضيلتين مادام في النفس أثر منه، يبعثها على مقاومة الداعي إلى الرذيلتين، فيضعف أثر دعوته، والمؤمن بالجزاء، المبرقع بالحياء، إن سقط في الخيانة أو الكذب مرة، وجد من نفسه زاجرا عنهما مرة أخرى، أما لو محي الإيمان والحياء - وهما منشأ الصدق والأمانة - من لوح النفس، فلا يبقى منها وازع عن ارتكاب ضديهما.
ويزيد في شناعة ما ذهبوا إليه، أن في أصولهم الإباحة والاشتراك المطلقين، فيزعمون أن جميع المشتهيات حق شائع، والاختصاص بشيء منها يعد اغتصابا، كما سيذكر، فلم يبق للخيانة محل، فإن الاحتيال لنيل الحق لا يعد خيانة، ومثلها الكذب، فإنه يكون وسيلة للوصول إلى حق مغتصب - في زعمهم - فلا يعد ارتكابا للقبيح.
لا جرم (¬3) أن آراء هذه الطائفة مروجة للخيانات، باعثة على افتراء الأكاذيب، حاملة للأنفس على ارتكاب الشرور والرذائل، وإتيان الدنايا والخبائث.
صفحہ 3