الصهاينة مرة أخرى1
كنا قد آلينا على أنفسنا عدم الاستجابة لأية استفزازات، حتى لا ننشغل بمعارك وهمية تصرفنا عن أبحاثنا، خاصة مع إدراكنا لحجم الشراك المنصوبة تلك الأيام، والتي نعلم جيدا دقائقها وآلياتها وأهدافها، لكن ما نشره الأستاذ «حازم هاشم» في «الوفد» بتاريخ 7 / 11 / 1995م تحت عنوان «ما بين القمني وهذا المترجم»، ودعوته الواضحة لنا للرد على الطبيب «رفعت السيد» حول ما كتبه في مقدمة ترجمته لكتاب «عصور في فوضى»، لمؤلفه الكاتب الصهيوني «إيمانويل فليكوفسكي»، إضافة إلى العبث غير المحمود الذي ساقه الطبيب المذكور، كل ذلك لم يترك لنا فرصة التمسك بمبدئنا، حيث انزلق السيد الطبيب إلى منزلق شديد الوعورة، غير مدرك إلى أي منحدر ذهب، فطعن في أمانتنا العلمية، وهي الرصيد الوحيد الذي نملك ونتيه به اعتزازا، ومن هنا تأتي استجابتنا لدعوة الأستاذ حازم هاشم، وهي الاستجابة الكفيلة بإنهاء الأمر بالقاضية، حتى لا نترك مساحة لمزيد من المهاترات، وحتى لا يطول أمر الأخذ والرد، لكن ذلك لا يعني حرمان القارئ من متعة المتابعة، فسنعطيه هنا قدرا كافيا من المتعة، وبغرض العودة السريعة إلى مكاننا الحقيقي بعيدا عن السجال حول أمور هي كالعهن المنفوش، ومن هنا نعتقد أن السيد الطبيب بدوره سيلتزم الصمت الحميد وفي ذلك كفاية وغنى.
وكان السؤال الذي تبادر إلى ذهني فور قراءتي للوفد هو: لماذا صمت السيد الطبيب منذ التقاني عام 1992م - حسبما قرر هو في مقدمة الكتاب المذكور - وحتى اليوم، ليخرج الآن عن صمته؟ أما لو كنت مكان أي قارئ آخر لكان السؤال هو: لماذا لم يبادر سيادته من فوره إلى اتخاذ الخطوات القانونية الرادعة في مثل تلك الأحوال؟ لكن لو حاولت الإجابة على سؤالي أنا، مع الأخذ بحسن الظن، لذهبت إلى احتمال أن الرجل وهو لم يبدأ بعد خطواته في عالم الكتابة، قد هدته قريحته إلى أن أقرب طريق إلى الشهرة هو التهجم على شخص يتم اختياره بعناية، وإذا كان ذلك كذلك، فقد فعلها الرجل دون أن يرمش له جفن، بجرأة متفردة ومغامرة يحسد عليها، لكن ذلك الاحتمال تراجع إزاء معطيات أخرى يمكنها أن تفسر لنا سر تلك النزوة المفاجئة، لمغامرة نزقة، في منطقة خطرة عسرة العبور.
رواية هذا الترجمان
يحكي لنا الطبيب الترجمان في مقدمته رواية غاية في الطرافة والظرف، فيقول: إنه قد التقاني عام 1992م، عندما كانت ترجمته لكتاب فليكوفسكي لم تزل بعد مخطوطة بأدراج مكتبه، لكن تلك الترجمة غير المنشورة - بمعجزة غير مفهومة - طبقت شهرتها الآفاق حتى وصلتني أخبارها، حيث كنت أقيم بمدينة الوسطى (كذا!) وعندها هرعت إلى السيد الطبيب أسعى، أطلب منه استعارة تلك المخطوطة الأسطورية لأطلع عليها، وحسب قوله إني قد فعلت ذلك بعد ما ترامى إلى سمعي عنها، وتشوقي لقراءتها، وذلك كي أستعين بها في كتاب كنت أكتبه حينذاك، هو كتاب «النبي إبراهيم والتاريخ المجهول».
وهكذا وجه الرجل لنا اتهامين دفعة واحدة؛ الأول أننا استعنا بفليكوفسكي في كتابنا «النبي إبراهيم» دون أن نشير إليه كمرجع لأنه بالفعل غير مدرج كمرجع، أما الثاني فهو أننا قد أخذنا بأفكار كاتب صهيوني في معالجة مسألة تتعلق بأب الأنبياء خليل الله عليه الصلاة والسلام. والغريب أن الطبيب الملهم لم يكلف نفسه عناء النظر في تاريخ طباعة ذلك الكتاب الذي صدر عام 1990م، واستغرق العمل فيه ثلاث سنوات قبل صدوره، وهو ما يعني أن الكتاب قد صدر قبل أن ألتقي بالترجمان المعجزة بسنتين كاملتين. ومعلوم أن مثل هذه الافتراءات من النوع الذي يعاقب عليه القانون، وهو ما ننوي الإقدام عليه بكل سعادة، رغبة منا في العقاب اللائق لتطهير مناخنا الثقافي، وليكون رادعا ماثلا دائما للنماذج المشابهة .
ونتابع مع الرجل مندبته المأساوية وهو يجأر بالشكوى قائلا: إنه أعطاني مخطوطته المترجمة لكتاب فليكوفسكي، بعد أن أخذ مني وعدا بعدم نشر أي جزء منها! أي أنه كان يخشى على مخطوطته سلفا ومع ذلك وثق في وعدنا الشفاهي (هكذا!) لكن الرجل يكتشف كم كان غرا عندما أعارنا المخطوطة؛ لأنه لم تكد تمر أسابيع حتى فوجئ بنشر ترجمته في مقالات أسبوعية بصحيفة «مصر الفتاة»، وبأننا قد وضعنا اسمنا على ترجمته للكتاب، وأننا كي نمرر تلك السرقة اللئيمة لجهد الرجل المسكين، أضفنا إلى تلك الترجمة بعض المقبلات، مع تعليقات هنا، وحواش هناك، لذر الرماد في العيون.
ويزعم الطبيب الترجمان أنه بذل جهودا مضنية لإيقاف نشر ترجمته لكتاب فليكوفسكي باسمنا، وتمكن من ذلك فعلا، لكن بعد أن كنا قد نشرنا الفصل الأول كاملا، ولأني رجل لا أرتدع عن الغي، فقد تماديت وأدرجت مقالات «مصر الفتاة» بكتابي
هناك، لمزيد من الضحك على ذقن القارئ والمترجم، إنها إذن فضيحة بكل معنى الكلمة، وظل الرجل صامتا يمضغ أوجاعه بصمت الكبراء والكاظمين الغيظ، حتى قرر أن يتكلم الأمس فقط، فأي تسامح؟ وأية مروءة؟ وأي ترفع؟ لكن ماذا يفعل الرجل بنفسه وهو يسوق أكاذيبه، عندما يكتشف أنه لم يجهد نفسه في صيغة الكذب المرتب، حيث إن دراستنا التي أشار إلى نشرها ب «مصر الفتاة»، والتي نشرناها تحت عنوان «الرد على الأضاليل في تنظيرة بني إسرائيل»، وكانت ردا على الصهيوني فليكوفسكي، قد نشرت خلال عام 1991م، أي قبل أن يلقاني سيادته بعام كامل!
يبدو أن الموضوع سينتهي عند هذا الحد، ولم أف قارئي الوعد بالمتعة المنتظرة، وهو غبن لقارئنا الكريم، وحتى لا تأخذ القارئ بنا ظنون عدم الوفاء، أجد من واجبي توسيع الحكاية حسب الأصول، ومن هنا أقدم للسيد الطبيب مثالا للأمانة لعله يحتذي به في مستقبل أيامه، فأقر هنا رغم انتهاء الأمر بهذا الشكل، أن الترجمة التي اعتمدنا عليها في ردنا على كتاب فليكوفسكي الصهيوني «عصور في فوضى»، كانت بالفعل ترجمة صاحبنا الترجمان، وهذا درس آخر في جرأة الواثقين المطمئنين، أما كيف حدث ذلك؟ فهي حكاية أخرى.
نامعلوم صفحہ