58

رب الزمان

رب الزمان: الكتاب وملف القضية

اصناف

ليس لها سوى تفسير حقيقي أوحد، هو عرض الإسلام على الناس فإن قبلوه التزموا به، ولا مكان بعد ذلك لحرية الاعتقاد، ومن يرى للآية تفسيرا آخر فهو كافر في دولة مؤمنة، وعليه أن يطوي نفسه على ما بها، أو ليرحل إلى مكان آخر، أما إن أصر على التصريح بما يرى، فقد أطلق صيحات كفور تقرب أجله.»

ورغم قوله: إن الدولة مؤمنة، فإنه يعود إلى الغمز واللمز، بقوله: إن أصحاب هذه التصريحات عصابات قليلة تستعين بالاستبداد السياسي لتفرض ضلالها، مشيرا إلى تحالف الدولة مع هذه العصابات الكفور.

حرية الاعتقاد

والرجل إذ يقول: مطلوب من علماء الدين فتوى تبيح الارتداد وتنسى عقوبته، يغالط مغالطة فاضحة، فهو يعلم يقينا أنه ليس مطلوبا منهم ذلك على الإطلاق، أولا: لأنه ليس في صحيح الإسلام شيء اسمه حد الردة، وثانيا: لأنه يعطي نفسه وجماعته سلطة موهومة، متصورا أن أي أمر يمس مصير الناس يجب أن تصدر عنه فتوى من رجال الدين أولا، وهو الأمر الذي تجاوزه الزمن، اللهم إلا إذا كان الرجل يعيش حلم سيادة مقبلة، يحتكر فيها الرأي الأوحد والتفسير الأوحد، حيث وضح في خطابه المذكور أنه ليس للآية سوى تفسير أوحد هو ما ساقه بشأنها.

وهو الأمر الذي يشير إلى ما يمكن أن يترتب على أي خلاف في التفسير (ناهيك مثلا عن الخلاف المذهبي أو الديني)، في دولة يحكمها رجال الدين، فتهمة التكفير مشهرة، ولا مجال حتى للخلاف في الرأي أو الاجتهاد، ولنا أن نتصور حمامات الدم التي ستحدث حينذاك، لخلاف في مصالح الرجال وأهوائهم، حول تفسير آية، أو حديث يخدم تلك المصالح أو يتعارض معها.

وهكذا، فالرجل قبل أن يتملك على العباد ويحكم في الرقاب، يصدر قراراته بتكميم الأفواه أو النفي والتشريد أو القتل، كما لو كنا نعيش في العزبة التي ورثها عن آل غزالي .

الجموح

والشيخ عندما يرى للآية تفسيرا أوحد، يعطي نفسه قدرا حاشا لإنسان أن يجمح به طموحه إليه، فهو بذلك إنما يعطي نفسه قدرة الاطلاع على المقصد الإلهي، بل ويفرض تفسيره على ذلك المقصد الرفيع فرضا، فيسوق للآية تخريجا يقول: إنها إنما تعني عرض الإسلام على الناس دون إكراه، فإن آمنوا وكونوا جماعتهم ودولتهم، التزموا بذلك العقد الإيماني.

ولوجه الحق، فإن هذا الرأي التفسيري سليم إلى حد بعيد، لكنه لا ينفي آراء أخرى وتفاسير أخرى، وليس هناك شيء اسمه التفسير الوحيد الصحيح، وكان أولى بالشيخ إن أراد صدق المقصد، أن يلجأ إلى حيثيات الناسخ والمنسوخ مرتبطة بواقعها وظرفها الموضوعي، وكيف نسخت آية السيف ما سلفها من آيات حرية الاعتقاد، وأصبح الكفر ملة واحدة، وأصبح الدين عند الله الإسلام، لكنه لم يرد أن يورط نفسه إزاء ما يزعمونه عن تمسكهم الإيماني بحرية الاعتقاد لأصحاب الديانات الأخرى في ظل دولة دينية يحكمون فيها.

هذا ناهيك عن كون ذلك التفسير للآية يسقط دعواه حول حد الردة؛ لأن الآية بذلك قد عرضت الإسلام على الجاهليين وغيرهم في جزيرة العرب زمن الدعوة، عرضته على أناس غير مسلمين عند تأسيس الجماعة «النواة» الأولى المؤسسة للدولة، وكان الخروج عليها حينذاك يعني فرط عقدها حيث حلت محل القبيلة، وأصبحت وطنا في وسط قبلي لا يعرف غير القبيلة وطنا، لكن مسلم اليوم، ولد مسلما، ولم يعرض عليه الإسلام وهو راشد بالغ عاقل، ولم يدع إلى عقد أو بيعة يقبل بشروطها أو يرفضها، ومن ثم فإن الظرف يختلف تماما عن وضع من قبلوا الإسلام عند تكوين الجماعة الأولى، ويبقى سؤال لا يحتاج إلى إجابة: هل يطبق على مسلم اليوم إن أراد اتخاذ موقف جديد بإرادته الحرة حد الارتداد، الذي هو غير مقرر أصلا؟ وهل نستحق أن نكون بشرا حقا، عندما نهلل لمسيحي يخرج على دينه ليدخل الإسلام، ونقتل مسلما ليس لأنه خرج إلى دين آخر، بل فقط لأنه أراد أن ينتمي إلى بني الإنسان، فقرر لنفسه حرية الإرادة والتفكير، وناقش أمرا من أمور دينه ليطمئن إلى طوية فؤاده، أو لأنه ناهض أمرا يراه ضد مصلحة البلاد والعباد.

نامعلوم صفحہ