وأفكر، وفيم لعمري أفكر إلا في الذباب، ولؤم الذباب، وتهافت الذباب، وأذى الذباب، وخطر الذباب، وما يجلبه الذباب من علل وأسقام، وأرزاء جسام!
وجعلت في مطرحي أسائل نفسي وقبل كل شيء أنبهك يا صديقي إلى ما تعلم من أنني عظيم الإيمان بالله تعالى، وثيق الاعتقاد بظهر الغيب في بالغ حكمته في كل جليل ودقيق من خلقه.
رحت أسائل نفسي: ترى ما حكمة الله الحكيم في بث هذا الذباب، وهو على ما ترى لا يحمل إلا قذرا، ولا يولي إلا أذى وضررا؟ ولكم يهدم بفرط تهافته الأعصاب، ويشيع ما لا يحصى من العلل والأوصاب، ويبلغ وحده ما لا تبلغ الحروب من أسباب الدمار والخراب، ومع هذا لم يظهر العلم له أية ثمرة ولو دقت، ولم يجل طول الزمان له منصفة ولو هانت، بل إنه لشر كله وأذى مستمر في أوله وآخره، وبلاء عظيم في ظاهره وباطنه، لا يدع الإنسان في لحظة من نهار في اطمئنان ولا قرار، وكلما زاده عن وجهه أو يده، أو عن طعامه أو شرابه، عاد من فوره فأثبت رجله حيث كانت ما تنحرف قيد 1 / 1000 من الشعرة؛ لا من وراء ولا من قدام، ولا ذات اليمين ولا ذات الشمال، بحيث لو استعان المرء بأدق الآلات الهندسية والفلكية ما بلغ هذا المدى في تحديد المكان، ولقد يبلغ من شدة تهافته أن يقع في الطعام أو الشراب، فإذا ترك وشأنه مات من الاختناق، بل إنه على حدة حسه ليقع في فنجان القهوة، وهي لم تزل تتنفس بالحر الشديد من البخار، وما أرى أنه خرج من هذه المنية الشنيعة بشيء إلا أنه أغثى نفسك ونغص عليك مزاجك!
وبعد، فأنت خبير بما يحمل هذا الطائر اللئيم من ملايين المكروبات، لا تفتأ تفرخ أشد العلل وأفتك الأوباء في حين تعيا السلامة منه، ويعجز الأمن من أذاه، فإذا زعمت أن من الفواتك ما يقتله، فذاك بقدر ما تظل الأبواب والنوافذ محكمة الإغلاق، حيث يغمر الغرفة ظلام ويدعو التنفس في جوها إلى الاختناق حتى إذا فتحت النوافذ والأبواب لتجديد الهواء دخل من الذبان أكثر مما خرج، وتطاير منها في الغرفة أعظم مما هلك!
اللهم إن هذا بعض ما ابتلي الناس من الذباب من قديم الزمان أو من أول الزمان، فترى أيكشف العلم فيه مزية، ويقع منه على منفعة تكافئ هذا القدر الهائل من الضر والفساد؟
وجعل الذهن - برغمي - يدور في هذا ملتمسا موطن الحكمة في هذا الخلق الضار الشديد، وكلما طلبت التفرج بالفكر في شيء آخر، رأيت الأمر يتعاصى علي، فقد استغرق حديث الذباب كل تفكير، وملك على الذهن جميع مذاهب التصور والتقدير!
وفيما أنا من ذلك إذ قرع مسمعي طنين ذباب، ولكنه أشبه ما يكون في عنفه وقوته، بهمهمة فهد أو زئير أسد، فحولت وجهي وأرسلت بصري، فإذا ذباب في جرم الغراب، ثم لم يرعني إلا أن جعل ينتفخ وينتفش حتى صار مثل الديك الرومي، ثم ما زال ينتفخ وينتفش حتى صار في حجم النعامة، لولا أن جسمه كله كاس بالريش لا يعرى منه شيء، ولولا أن رأسه موصول بما بين كتفيه لا يفصل بينهما عنق، فإذا حرك رأسه فمن أعلى إلى أسفل ثم من أسفل إلى أعلى، كأنما وصل بين رأسه وكتفه بمفصلة، ولولا أنه مزود في مقدم صدره بخراطيم على حين ليست للنعامة خراطيم.
ويقبل هذا الذباب الضخم علي وهو يرفع رأسه ويخفضه، فتداخلني من الذعر ما أزاغ البصر، وكاد يخلع شعبة من شعب القلب، فبادرني بقوله في لسان عربي صحيح: لن تراع! لن تراع! فإن الشيطان إذا كان قد أزلق فكرك إلى هذا فإنه ما زالت تعصمك قوة إيمانك، فقلت: الحمد لله رب العالمين. قال: فلو عملت بقول الله في كتابه الكريم:
وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم
فقلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم. قال: والآن فاسمع يا هذا: ما أشد ذهابكم، يا بني آدم، بأنفسكم وافتتانكم بعقولكم، وتباهيكم بهذا القدر الضئيل الذي تعلمون من ظاهر الحياة الدنيا
نامعلوم صفحہ