تراه يحلف لك بالمؤثمات من الإيمان، أنه لا يكاد يمضي نصف ساعة على كل هذا الذي خضم وقضم، وافترس والتهم حتى يحس إلحاح الجوع، بل حتى يحس أن معدته تتنزى في جوفه تنزيا بعد أن اعتصرها شدة التحلب على الطعام!
ولعمري، هل كان هذا كله إلا بفضل جودة الهواء؟ أعود فأستغفر الله! فلقد كان هؤلاء الحكاءون يذكرون الطبيعة؛ بل لقد كانوا يشيدون بفضل الطبيعة، ولكن في العون على سرعة هضم الطعام! يا سبحان الله! وهل ثمة شيء وراء الطعام؟
وبعد، فلقد خرج لنا مما مضى من القول أولا: أن بدعة قضاء جمهرة المصريين الصيف أو فترة من الصيف، إنما كان منجمها شهوة المحاكاة والتقليد، اللذين ما برحا شائعين في خلالنا مع الأسف الشديد مهما عادا بالضر العظيم، وثانيا: شدة الرغبة في الأطراف والأغراب بالتزيد والإفراط في المبالغات إظهارا للاستئثار دون القاعدين، بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب إنسان! وثالثا: إفراد الطعام وكل ما يتصل بشهوة البطن، واختصاصها بالوصف بين كل ما يرى المرء وما يصيب من السياحة في بلاد الشام، ولو قد جعلوا شطرا من حديثهم لوصف ما حبا الله تلك البلاد من سحر وفتنة، أو لما وثقوا من حبال المودة بيننا وبين جيرتنا الكرام، أو لذكر ما يلقى القوم من عنت ورهق وأذى تحت الحكم التركي في تلك الأيام، لما كان لحديث الحكائين شيء من تلك الفسولة والإبرام!
ولقد رأيت أن حديث الحكائين من رواد الشام قد استغرق المساحة المقسومة للمقال، فلنرجئ حديث رواد اصطنبول إلى وقت آخر، أرجو أن يكون قريبا إن شاء الله.
الحكاءون (2)
اصطمبول (1)
وترى أنني خالفت الكاتبين إلى رسمها بالصاد لا بالسين، وذلك لأجاري منطق الناس كافة، لثقل النطق بالطاء بعد السين الساكنة، ولقد يكتبونها في بعض الأحيان «اسلامبول»، فإذا نسبوا إليها - في الكتابة لا في النطق - كتبوا «الإسلامبولي» على أنهم إذا تكلموا قالوا: «رأيت سي محمد اصطمبولي»، «وسافر سي حسين اصطمبللي» ... إلخ.
ومن أسماء هذا البلد القصطنطينية، والآستانة، وفروق - وهذه لا أعرفها إلا من شعر شوقي «بك» عليه رحمة الله - ودار السعادة على ألسن الترك و«در سعادت» على ألسن الترك والمتتركين، وحقيق بمثوى الخلافة الإسلامية أن يكون كل هذه الأسماء، ولا تنس مثوى الخلافة الإسلامية في عهد العباسيين، فلقد كان من أسمائها: بغداد، بغداذ، بغذاد، بغدان، مدينة المنصور، مدينة السلام ... إلخ. ولقد قال المتقدمون: إن كثرة الأسماء دليل على شرف المسمى.
وبعد فلقد علمت أن كثيرا من المصريين كانوا يحجون في مطالع الصيف من كل عام إلى دار الخلافة، ثم يعودون إذا عادوا، فيحكون شأن رصفائهم من رواد بلاد الشام.
على أن الحديث - كما قلت لك في المقال السابق - مختلف بين الفريقين جد الاختلاف، فإنك قل أن تسمع من رواد اصطمبول حديث «البقلاوة» أو «البلنج ضلمة» أو «الأمام يبلدي»، وأرجو أن تفخم اللام في هذه بكل ما تستطيع من التفخيم.
نامعلوم صفحہ