صلى الله عليه وسلم ، وفيها توسل بآل بيته تسليمات الله عليهم، ويدعوها العامة الأولة فهذه كان لها في القاهرة تقليد جميل.
ولقد تعرف أن القاهرة كانت إلى عهد غير بعيد لا تشغل إلا رقعة ضيقة من الأرض، وكانت المساجد والزوايا تتمتع فيها بنسبة كبيرة من عدد المباني، فأنى اضطربت رفعت لك المساجد الأثرية الجميلة والزوايا اللطيفة المتواضعة التي لا يكاد يخلو منها زقاق من الأزقة أو درب من الدروب.
وقد حدثني الثقات الصادقون من مشيخة القارئين أن جميع مؤذني المساجد في القاهرة كانوا إذا ظهروا المآذن للهتاف بالأولى أو الأولة وقفوا وقد أرهفوا آذانهم، وعلقوا أنفاسهم في انتظار الأمر الذي يصدر اليهم عن مئذنة الشيخ صالح أبي حديد بالنغمة التي يجرون فيها الأهازيج لليلتهم، فإذا جلجل مؤذن الشيخ صالح بنغمة الرصد مثلا، أسرع مؤذن المساجد حوله بالصياح بها، وأخذ أخذهم مجاوروهم ومن تقع للأسماع أصواتهم، وهكذا فلا تمضي دقائق إلا والقاهرة كلها تجلجل بنغمة الرصد، وإذا بدأ بالبياتي، أو بالحجاز، أو بالسيكاه ... إلخ. فهكذا وما شاء الله كان!
وهذا إذا دل من ناحية على القصد إلى ضبط المؤذنين لأصواتهم، وتحكمهم في نبراتهم، وعدم تأثرهم بالأنغام الأخرى وإلا اضطروا إلى الخطأ، ودفعوا برغمهم إلى النشوذ - النشاز - إذا دل هذا على هذا فإنه في الموقف نفسه دليل على أن أهل مصر، أو سكان القاهرة على الأقل كانوا أصحاب فن وأهل ذوق وعشاق تطريب!
وقبل أن أعرض لما أعرف من أدب الإنشاء على الذكر أرى من الخير الكثير أن أنبه إلى أن المنشدين الذين يجرون من الصنعة على عرق، لا يمكن أن يفسحوا في حناجرهم إلا على ذكر السادة الليثية، نسبة إلى الإمام الليث بن سعد المصري - رضي الله عنه - وذلك لأن أهل هذه الطريقة أصحاب فن موسيقي بقدر كبير، ففي طرائقهم بالهتاف باسم الله - تعالى - «لا إله إلا الله! الله الله!» ما يمكن للمنشد المفتن من أن يلقي أهازيجه، موشحة كانت أو دورا أو مقطوعة شعرية أو مواليا غير متعثر ولا متحير، بل لقد يكون ذكر الذاكرين لاسم الله تعالى على أساليب هذه الطريقة، خير يعينه على الإنشاد ويهديه في سبيله السبيل.
وإن أنس لا أنسى السيد علي الركبي - رحمة الله عليه - وكان قائد الذكر الليثي، أو ضابط الإيقاع في تعبير هذه الأيام، وقد أدركته شيخا تقدمت به السنون مرسل اللحية البيضاء، وقسماته تنبئ عن طيبة قلب، ولطف نفس، فإذا جلس أعلام المنشدين لشأنهم في صدر المجلس، جعل يدير أساليب التنغيم بالذكر تنغيما فنيا يهيئ لأولئك المنشدين أداء مهمتهم على أدق القواعد وأحسن الوجوه، ولقد يصرفهم هو في فنون النغم بتوجيه الذاكرين إلى هذه الناحية أو هذه الناحية، مسرعا مرة ومتمهلا أخرى ضابطا الوحدة بنقرة بخاتمه الفضي على حق سعوطه النحاسي، فكان بحق أكفأ «مايسترو» رأته العيون في هذه البلاد.
والأدب أو التقليد الذي أحصيه لهؤلاء القوم، أنه إذا جلست الجماعة للإنشاد ثم فرغوا مما استفتحوا به مجتمعين، جعل كل منهم يتغنى فردا مستغيثا بالنبي - صلى الله عليه وسلم وآل بيته - تسليمات الله عليهم، ثم عاد إلى التغني ببيت أو بيتين من الغزل الرقيق، والذي أسوق له القول هو أن أول من يبدأ بالإنشاد يجب أن يكون أعلى الحاضرين سنا، ولو كان أنكرهم صوتا ثم يليه من يكبر سائرهم وهكذا، وقد كان يجيء المرحوم الشيخ يوسف المنيلاوي في بعض الأحيان، آخر المتغنين وهو غير مدافع ملك المنشدين!
فن الحزن
لأول مرة في حياتي أدس قلمي بين قلمين يتحاوران ويتنازعان في قضية من قضايا الدنيا أو الدين، وحين كنت قاضيا لم يكن يحرج صدري بقضية قدر حرجه بقضية يقتحم فيها على المتخاصمين ثالث، فتتشعب به وجوه الخلاف، ويطول أمد النزاع ويجتاز صدرا كبيرا من هم القاضي في البحث والتحري عما إذا كان هذا الخصم الثالث جادا في دعواه، جاريا على عرق من الحق في مطلبه، أو هو متواطئ مع أحد الخصمين ليدفع يده عن بعض حقه، أو ليدفعها عن حقه كله؟ ولقد بان لي بعد امتحاني بمنصب القضاء بزمن يسير أن أكثر قضايا المحاكم الشرعية التي يقتحمها هؤلاء الخصوم هي قائمة على التواطؤ مع أحد الطرفين، كيدا وعنتا وأذى للطرف الآخر بغير حق ولا سبب مشروع! على أن ذلك لا يعفي القاضي من البحث والتحري وشدة التدقيق، فلعل هذا الخصم الثالث جاد ولعله صاحب الحق دون المتنازعين جميعا!
ولقد كان من أثر هذا في نفسي أن أكره إليها الدخول بين متجادلين، ولو في شأن عام ولو في قضايا العلوم والفنون والآداب، فيما يقع عليه الخلاف بين الباحثين والكتاب، ولكني رأيت أن حجتي في هذه المرة واضحة وأن سلطاني في الأمر مبين، بحيث لا يستطيع أحد المتنازعين أن ينكره أو يكابر فيه، ويعتريه بشيء من الشك كثير أو قليل، إذن فمن الإثم أن أسكت وخاصة إذا كان النزاع إنما يتعلق بالشأن العام، وعلى الأخص إذا لم يكن بيني وبين أحد الطرفين نزاع أو خصام!
نامعلوم صفحہ