قطب السرور في أوصاف الأنبذة والخمور
قطب السرور في أوصاف الأنبذة والخمور
ثم رجع إلى مكانه من الدهليز فبات به، فلما أصبح روحٌ خرج في الغلس للصلاة ومعه غلمانه فاختلط الفتى في جملتهم، فلما عاد روح وأسفر الصبح تأمل الكتاب وقرأه فراعه وأنكره، وقال: ما هذا، والله ما يدخل حجرتي إنسيٌ سواي، ولاحظَّ لي بالمقام بالعراق، ثم نهض من ساعته فدخل على بشر فقال له: يا ابن أخي وصِّني بما أحببت من حجةٍ أو سببٍ عند أمير المؤمنين فقال: ولِمَ يا عم، هل سمعت شيئًا كرهته، أو رأيت أمرًا أنكرته فلم يسعك المقام معه، فقال: لا والله بل جزاك الله عن نفسك وعن سلطانك خيرًا، ولكن، أمرٌ حدثَ لا بدَّ من الشخوص له، فأقسم عليه أن يخبره، فقال: إن أمير المؤمنين قد مات، أو هو ميتٌ إلى أيام، فقال له بشر: ومن أين علمت ذلك؟ فأخبره بخبر الكتاب، وقال: ليس يدخل أحدٌ حجرتي غيري وغير جاريتي فلانة فمن كتب ذلك إلاَّ الجنّ أو الملائكة، فقال له بشر: أقم، فأرجو ألاَّ يكون لهذا حقيقة، فلم يثنه ذلك عن الخروج، فسار إلى الشام، وأقبل بشرٌ على الشراب واللهو والطرب، فلما وافى روحٌ عبد الملك أنكر أمره، قال: ما أقدمك، الحادثة حدثت على بشر، أم لأمر كرهته، فشكر حسن سيرته، ووصف سلامته في نفسه، وقال: بل جئتُ لأمرٍ لا يمكنني ذكره حتى تخلو، فقال عبد الملك لمن حضر: إذا شئتم، وخلا بروحٍ فأخبره بقصته، وأنشده الأبيتات، فضحك عبد الملك حتى استغرب، وقال: ثقلت على بشرٍ وأصحابه حتى احتالوا لك ما رأيت فلا تُرع لذلك، ووفى بشر لنديمه بما وعده وأجزل جائزته.
وكان محمد بن يزيد المبرِّد يقول: لم أرَ في أهل زماننا من الرؤساء وأصحاب السلطان أشدَّ رغبةً في الأدب ولا في مواظبةٍ عليه ومحبة له من محمد بن عبد الله بن طاهر والفتح بن خاقان، فأما الفتح فبلغ من شهوته للأدب أنه كان يذهب من مجلس المتوكل إلى علماء المذهب فيغنم زمان تلك الخلوة اليسيرة فلا يقطع مسيره بادئًا ولا راجعًا إلا بالنظر في كتاب، فعلمت أنه لم يكن لينال تلك المنزلة في النِّدام إلا بهذه القريحة، وأما العبث والمزاح، فله من المنادم موقع لطيف وموضع خصيص إذا تبين النديم منه نشاطًا لذلك.
وقال قائل للمأمون: أيأذن أمير المؤمنين في المداعبة، فقال: وهل العيش إلا فيها.
واجتمع على مائدة أبو عيسى بن الرشيد وطاهر بن الحسين، فأخذ أبو عيسى ورقة من الهندباء فغمسها في الخل وضرب بها عين طاهر الصحيحة، فغضب طاهر وقال: يا أمير المؤمنين، إحدى عينيَّ ذاهبة والأخرى على يديْ عدل، ويُفعلُ في هذا بين يديك، فقال: يا أبا الطيب: إنه والله ليعبث معي أكثر من هذا العبث فاضحك له.
وروي عن إسحق الموصلي أنه قال: مكثت أيام الرشيد أغدو إلى هشام ووكيع فأسمع منهما وآتي إلى عاتكة بنت شهدة فتطارحني صوتين، ثم إلى زلزل فيلقي عليَّ من الضروب طريقين، ثم أوجِّه إلى الأصمعي وأبي عبيدة فلا يزالان عندي إلى الظهر، ثم أروح إلى أمير المؤمنين.
وقال إبراهيم بن المدبر لمحمد بن يزيد المبرِّد: أُحبُّ أن تنظر لي جليسًا يجتمع مع إيناسي ومنادمتي، فناديت ولدي فبعث إليه علي بن سليمان النحوي، وكتب إليه معه هذا: أنفذت إليك أعزَّك الله فلانًا وجملة أمره كما قال الشاعر:
إذا زرتُ الملوكَ فإنَّ حسبي ... شفيعًا عندهم أن يخبروني
ومما يزيد النديم في المحل تقدمًا، وعند نفسه تمكنًا أن يكون عالمًا.
وقيل لأعرابي: كم تشرب من النبيذ، قال: على قدر النديم، وقالوا: من شرط المنادمة قلة الخلاف، والمعاملة بالإنصاف، وترك الجواب، والمسامحة في الشراب، وإسقاط التحيَّات واجتناب اقتراح الأصوات وإدمان الرضى واطراح ما مضى وإحضار ما تيسر، وأكل ما حضر وستر العيب وحفظ الغيب. ومن صفات الندامى قول أبي عبد الرحمن العطوي:
اخطب لكاسِك ندمانًا تسرُّ به ... أولا فنادم عليها حكمة الكتب
اخطبه حرًا كريمًا ذا محافظة ... يرى نِدامَكها من أقرب النسب
فإن لم يكن حلبَ الأيام أشطرَها ... وقومته وراضته يد الأدبِ
فقد ملأتَ به كفيك من رجل ... يرعى ذمامك رعيَ الواصل الحَدِب
وقال أيضًا: جَدِّدا مجلسًا لعهد الشباب واسقياني على الهوى والتصابي
في كهولٍ إذا استدرت حمَّيا الكأس لم ينطقوا بغير الصواب
1 / 73