وجلس المأمون يومًا للنظر في المظالم فوقف إليه رجل [قال: من أنت؟ قال: محمد بن جميل، أحد كتاب الفضل بن يحيى] فقال: يا أمير المؤمنين كنت في ناحية البرامكة فلما أصابهم قد الله وقبضت ضياعهم، قبضت ضيعتي فيما قبض لهم، وقد أضر ذلك بي، فإن رأيت أن تلحقني بمن شمله عدلُك وغمره فضلُك، وتحقق حسن ظني بك، وجميل أملي فيك فعلت، قال: من أنت، قال: [محمد بن جميل أحد كتاب الفضل بن يحيى]، فاستحسن المأمون هيئته وكلامه، وقال لأحمد بن أبي خالد: اكتب إليه برد ضيعته وضمه إلى جملته، وأحسن إليه، وكان يحضر طعامه وشرابه فلا يسمع منه حديثًا، إلا الافتخار بأيام البرامكة، وذكر مناقبهم وتعظيم شأنهم، فغاظَهُ ذلك فأمر بحبسه، فأقام في الحبس أربعة أشهر، إلى أن ذكره المأمون فسأل عنه فأخبر بامره، فأمر المأمون بإحضاره على حاله تلك، فحمل إليه فقال له: بلغني ما كان من إطرائك البرامكة فقال: أتكلم بأمان يا أمير المؤمنين، قال: نعم، قال: والله لقد كانوا شِفاء سقامِ دهرهم، وغياث جدب عصرهم، وما زالوا كهفًا للاجئين، ومفزعًا للملهوفين، فإن أمر أمير المؤمنين حدثته ببعض حديثهم فيعذرني على الميل إليهم قال: هات حديثك، قال: يا أمير المؤمنين قد كانت لي بهم حُرمة، وصارت إِليَّ من فضلهم نعمة، فقال لي الفضل يومًا، يا محمد، قلت لبيك، قال: اشتهي أن تدعوني إلى منزلك كما يدعو الصديقُ صديقَه، والأخُ أَخاه فتقعدني، على فرش بيتك وتطعمني من طبيخ أهلك، قلتُ: شأني أصغر من ذلك، وأحقر، وداري تضيق بذلك، فأبى عليَّ، وقال: والله لا قبلت عُذرك، قلت: فاستأجلني حولًا أتأهب فيه لهذه الدعوة، فقال: لا أفعل يا بغيض، من يعطينا أمانهُ من الموت إلى سنة، ولكن قد أجلتك شهرين، فخرجت، فأخذت في إصلاح داري وأثاثي وآلتي إلى انقضاء الشهرين، فقال: يا محمد، ما صنعت، قلت: ما أمر به الأمير، قال: فتأذن في البكور، قلت: يتفضل مولاي الأمير، قال: فبكرَّ عليَّ يحيى والفضل وجعفر في خاصة خدمهم، فقال لي الفضل: إعرض علي ما طبخت، فعرَّفته، فقال: عجل بلونِ كذا فإن الوزير يستطيبه، يعني إياه، فأحضرته وتتابع ما طبخ لهم، فأكلوا وخرج الفضل إلى صحن الدار فقال: من جيرانُك، قلت: عن يميني فلان التاجر وفي ظهر داري رجل قد ابتاع براحًا وجمع إليه الصُناع فهو لا يفترُ ولا يقصِّر في بنائه، قال: يا محمد أفتعرفه، قلت: لا والله، قال: علي ببناء ونجارٍ، فأتي بهما، فقال لهما: افتحا ها هنا بابًا، فقلت: بالله أنشدك أن لا تؤذي جاري بسببي، فأبى، ولم أجسر أعاوده، ففتح بابًا، ودعا أباه وأخاه، فدخلا معه ودخلت معهم إلى دار لم تر الناس أحسن منها ولا أبهى قد بنيت بالرُّخام والساج ومُرِّهَت بالذهب واللاذورد، وعمل في وسطها بستان قد نقلت إليه الأشجار المثمرة، وصنوف الزهر والرياحين، وإذا غلمان خصيان وفحول مُرد كالدرِّ المنثور، وأقبل الفضل يطوف بالدار والخزائن، وإذا هي مشحونةٌ بكل ما يشاكلها من الفُرش والأنية الحسنة، فقال: يا محمد، أيما أحسن، هذه الدار أم دارك وفرشك وآلتك، فقلت يا سيدي، وهل في الجنة إلا مثل هذه، ولا يجب أن يسكنها أحدٌ غيرك، فملاّك الله وعمَّرَك، قال: يا محمد، أتحب أن تكون لك، قلتُ: لا والله، ما أرى نفسي لها أهلًا، قال: فإنها والله لك، بكل ما فيها من آلةٍ وفُرشٍ وعبيد، فبُهِتُّ لا أُحيرُ جوابًا، فقال: يا محمد، لا تستكبر هذا مع محلِّك عندنا ثم دعا بالطعام فأكلنا، وبالشراب فشربنا، فعطف يحيى على جعفر فقال: إن أبا العباس قد سبقك إلى ابتداء هذه المكرمة، فلا تفوتنك خاتمتها، قال: وما ذاك؟ قال: إن محمدًا قد حصل في هذه الدار بما فيها من الحشم والغلمان ولا نادة له يستعين بها عليهم فضررها عليه أكثر من نفعها، وضيعتك الفلانية تقيم أوده وتصلحُ حاله، قال: قد أمرت له بها وحززته إياها ودعا بكتابها فدفعه إليه، فسُرَّ يحيى وقال: لا أخلاكما الله من عارفةٍ تشيدانها ويدٍ عند حُرٍّ تصنعانها وانصرفوا، فقال المأمون: لقد برز القوم في فضلهم فلا لوم عليك في إطرائهم وذكر مفاخرهم، وإفراطُك في شكرهم، يدلّ على صدق حديثك، ويُرَغِّبُ في اصطناعك وأمر له بمائة ألف درهم وأثبته في خواصه، وكان أحسن رجاله حالًا وأعلاهم هِمة.
1 / 18