وقال إبراهيم بن العباس الصولي: عزم الفضل بن مروان وزير المعتصم على أن يدعوه وخاصته إلى منزله وبلغني ذلك وكان لي صديقًا، فأشرت عليه ألاَّ يفعل، فأبى وقال: قد رهنت لساني بذلك، ورأيته يشتهيه فدعاه. قال إبراهيم: فإني لجالس إذا جاءني رسول الفضل بن مروان (يقول): أحبُّ أن تصير إلأيَّ الساعة، فوافيته، فخرج إلي متحيرًا، فقال: أشرت عليَّ بصوابٍ فأبيته، قلت: فما الخبر، قال: لم يبق شيءٌ حسن إلاَّ وقد علقتُهُ وفرشته، ولا آنية حسنةٌ، إلا وقد استعملتها وأظهرتُها، وجاءني أمير المؤمنين مسرورًا وأمرتُ بالطعام فلما أحضرته، أمسك بطنه وقال: قد وجدت مَغسًان وامتنع عن الأكل، وأظنُّ ذلك لاستنكاره ما رأى لي، فما الحيلة؟ قلت: إذا أتتك رقاعي فأطهرها بين يديه، وأجبني عنها، وجعلت أُواترُ رقاعي إليه: أن أصحاب خزائن أمير المؤمنين قد طلبوا الآنية والأمتعة المستعارة منهم، وقد سألتهم الصبر إلى وقت قيام أمير المؤمنين، فأبعث إليهم من يعينني عليهم، فجعل يظهرها ويكتب أجوبتها بين يدي المعتصم، فقال ما هذا يا فضل؟ قال: أصحاب خزائن أمير المؤمنين استعجلوني في ردِّ ما استعرته منهم وتجملتُ به في هذا اليوم الذي شرفني فيه أمير المؤمنين بدخول منزلي، فقال المعتصم: يا فضل، هذا من خزائننا، قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: وليس شيءٌ منه لك، قال: من أين أنا أملك هذا، قال: فإني أهبه لك، وأمر الخدم أن يضربوا رؤوس من يستعجله في ذلك، وقال: قد خفَّ ما كنتُ أجد فهات طعامك، فأكل وأكل الناس معه وشرب وشربوا، وأقام إلى ىخر النهار وانصرف مسرورًا.
ولما ظفر المأمون بإبراهيم بن المهدي، استشار أصحابه، فكلهم أشار بقتله، إلا الحسن بن سهل، فإنه قال: إن قتلتهُ فعلتَ ما فعله الناس قبلك، وإن عفوت عنه تفردت بمكرمة لم يأتها أحدٌ قبلك، قال: فإني أختار هذا، وعفا عنه.
ودخل الحسن على المأمون وهو على شرابه فناوله قدحًا وقال له: بحق عليك إلا أمرت من شئت أن يغنيك لفأومأ إلى إبراهيم بن المهدي، فأمره المأمون أن يغني له، فاندفع يغني بشعر الأعشى:
تسمعُ للحلي وسواسًا إذا انصرفت ... كما استعان بريحٍ عشرقٌ زَجِلُ
فشرب الحسن وخرج، فوثب المأمون عن مجلسه مغضبًا وقال: عليَّ بإبراهيم، فجاء وهو يُرعد، فقال له: لا تدعُ كبرَك وتيهَكَ، ولا تعرف حقَّ المنعم عليك، أنفت من إيماء الحسن إليك بالغناء، فغنيت معرِّضاَ بما يعرض من المراد، أَما والله ما أحياك بعد الله غيره، فلا تعد لمثلها، قال [يا] أمير المؤمنين: ومن يبحث عقله وتهتدي قريحته لمثل هذا، لست أعودُ إليه أبدًا.
ولما تزوج المأمون بوران بنت الحسن بن سهل انحدر إلى " فم الصلح " وهي المدينة التي بناها الحسن بن سهل على دجلة، فبنى ببوران، وأقام المأمون وسائر قوادِهِ ورجاله، في ضيافته أربعين يومًا، يأكلون ويشربون ويسمعون كل ملهيةٍ ومُلهٍ كانوا ببغداد، وكتب رقاعًا صغارًا، فيها أسماء ضياع ومستغلات وعدد أموالٍ، وجعلها في بنادق مسكٍ وعنبر، ونثرت على القواد والوجوه، فما وقع منها بيد كل واحدٍ، مضى بها إلى وكلاء الحسن فتسلم ما فيها.
ولما جُليت بوران على المأمون، أُشعلت بين يديه شمعة عنبر فيها مائة رطلٍ، وفرش له حصير من ذهب مرصع بالجوهر، وجيء بمكتلٍ من ذهب مرصعٍ بالجوهر فيه حبُّ دُرٍّ، فنثر على ذلك الحصير فقال المأمون: قاتل الله أبا نواس، كأنه كان يشاهد هذا حيث قال: كأن صغرى وكبرى من فواقعها حصباء دُرٍّ على أرض من الذهب قال الحسن بن رجاء: فكنا نُجري على ستة وثلاثين ألف ملاَّح بالسفن، المقيمين بمقام المأمون عنده، وبلغ إنفاق الحسن في هذه الوليمة، أربعة آلاف ألف دينار، فعاتبه المأمون في حملِهِ على نفسه، فقال: يا أمير المؤمنين أترى هذا من مال سهل؛ والله ما ههو إلا من مالك.
وكتب الحسن بن سهل إلى الحسن بن وهب، وقد اصطبح في يوم غيم لم يمطر: أما ترى تكافؤ الطمع واليأس، في يومنا بقرب المطر، وبُعده [في] قول كثير:
وإني وتهيامي بعزَّةَ بعدَماا ... تخليتُ مما بيننا وتخلتِ
كالمرتجي ظِل الغمامة كلَّما ... تبوأَ منها للمقيل اضمحلتِ
1 / 13