فالخادمة الصغيرة تعلم أن الماء يغلي إذا وضع إناؤه على النار، لكنها تترك لعالم الطبيعة أن يضبط لنفسه: عند كم درجة من الحرارة يغلي الماء؟ وكم يكون ضغط الهواء عند تلك الدرجة؟ وكم يكون الارتفاع عن سطح البحر؟
والطفل يدرك أن الشمس تشرق في الصباح، وتعلو في السماء وتغرب، وأن القمر يبدو آنا ويختفي آنا، وأنه إذ يبدو لا يكون دائما على صورة واحدة؛ فهو يوما صغير ويوما كبير، لكنه يترك لعالم الفلك أن يحدد لنفسه حركات الكواكب التي تنتج للشمس شروقها وغروبها، وللقمر ظهوره واختفاءه، ومن ذا الذي لا يعلم أننا إذا أمسكنا مرآة أمام الضوء انعكس الضوء عليها؟ لكننا نترك لعالم الضوء أن يحسب زوايا الانعكاس وزوايا السقوط.
وعالم الطبيعة حين يتناول معارف الناس الشائعة في الحياة الجارية ليبلغ بها أقصى ما يستطيعه من التحديد والدقة، قد يبعد به الشوط بعدا تنقطع معه الصلة بينه وبين الرجل من سواد الناس؛ فسيقول الرجل من سواد الناس مثلا عن مقعده إنه مصنوع من خشب صلب، وسيوافقه عالم الطبيعة على ذلك، ثم يأخذ في التحليل والتحديد ليعلم: ما طبيعة هذا الخشب الصلب؟ وإذا به ينتهي آخر الأمر إلى أنه مؤلف من ذرات هي كهارب سالبة وموجبة، أو إن شئت فقل: هي ضوء دائب الحركة، وإذن فلم يعد خشب المقعد في حقيقته خشبا صلبا كالذي قد ألفته الحواس، أفنقول إذن: إنه ما دامت الشقة قد بعدت كل هذا البعد بين عالم الطبيعة في فهمه لطبيعة الخشب وبين الرجل من سواد الناس، فهذا العالم قد شطح في الوهم وبات جديرا منا بالسخرية؟
والفلسفة لا تصنع إلا شيئا كهذا؛ فهي تبدأ سيرها دائما من معارف الناس الشائعة في الحياة الجارية، ثم تسير بها نحو التحديد والدقة، وقد ينتهي بها هذا السير إلى شيء يرضى عنه خيال الإنسان من سواد الناس، ولكنها أيضا قد تنتهي بسيرها نحو التحديد والدقة إلى نتيجة بعيدة بعدا شاسعا عن مألوف الناس في معارفهم الشائعة.
وإذن فلنبدأ هذا البدء لنوضح للقارئ الذي قد همس لنفسه سائلا: ما الفلسفة؟ لنوضح لمثل هذا القارئ ما يجيبه عن سؤاله: فما الرأي الذي يكاد يشترك فيه معظم الناس في عصرنا هذا - مثلا - إذا ما سئلوا عن أنواع الكائنات المختلفة التي تملأ هذا العالم الذي نعيش فيه؟
الرأي المشترك بين معظم الناس هو أن في العالم عددا ضخما من الأشياء المادية التي تختلف نوعا؛ فهنالك أفراد من البشر يعدون بالملايين، وصنوف من الحيوان، وأخرى من النبات لا تكاد تقع تحت الحصر، ثم هنالك الجوامد؛ هنالك الجبال وصخورها، والصحراء ورمالها، والبحار والأنهار والمعادن؛ وهنالك ما قد صنعته يد الإنسان من منازل ومقاعد ومناضد، وما ليس له حد من سائر الأشياء، وتلك أشياء على سطح الأرض وفي جوفها، لكن هذه الأرض نفسها بكل ما عليها وكل ما في جوفها إن هي إلا جزء ضئيل من كون كبير، فيه الشمس، وفيه القمر، وفيه الكواكب والنجوم.
وليست هذه الأشياء كلها في رأي الناس من صنف واحد؛ ففيها ما هو حي وما هو جامد، فيها ذو العقل وفيها ما ليس له عقل، من من الناس، عامتهم وخاصتهم على السواء، يرتاب في أن له عقلا زيادة على ما له من بدن؟ من ذا الذي يرتاب في أن الإنسان يحس بما لا يحسه الحجر، وأن له من حياة الشعور ما ليس للحجر؟ فله ما ليس للحجر من رؤية وسمع ولمس وتذكر وتصور وتفكير، إنه يحب ويكره ويغضب ويخاف، إنه يرغب في هذا ويرغب عن ذاك، ويريد شيئا وينصرف عن شيء. وهذه كلها أشياء لم تصنع من مادة؛ فليست الإحساسات والعواطف والتفكير خشبا أو نحاسا، وإذن فالناس متفقون في معارفهم المشتركة الجارية على أن الكائنات صنفان؛ صنف قوامه مادة، وآخر قوامه عقل أو شعور.
والناس يشتركون في الرأي بأن الأشياء المادية إنما تقع في هذا الموضع أو ذلك من مواضع المكان، وهم يعنون بذلك أن كل شيء منها بينه وبين سائر الأشياء أبعاد تقصر أو تطول، يمكن قياسها بوحدات من الطول نتفق عليها، فنقول مثلا: إن بين الأرض والشمس كذا ميلا، وبين هذين الجدارين في الغرفة كذا مترا، وهكذا، وقد يتلاصق الشيئان بحيث تكون المسافة بينهما صفرا، كذلك يتفق سواد الناس على أن الجانب الشعوري من الإنسان، كتفكيره وعاطفته، إنما يقع في المكان الذي يكون جسده فيه، فتفكيري الآن هو حيث أنا جالس من مكتبي، وإذا انتقلت من داري إلى مكان آخر فسينتقل معي كذلك فكري.
والرأي المشترك بين الناس أيضا هو أن الأفعال الشعورية من إحساس وفكر وعاطفة وما إلى ذلك إنما تتوقف على أوضاع الجسد وإن تكن من طبيعة مختلفة عن طبيعة الجسد؛ فلا رؤية إلا إذا فتحت عيني، ولا سمع إلا بإذن تسمع، وهكذا.
وإذن فالرأي السائد عند عامة الناس، إذا ما سئلوا عن كائنات الوجود، خلاصته أنها نوعان؛ مادة وروح، وأن الروح لا تكون إلا في قلة قليلة جدا من الأشياء، أما سائرها فجماد لا روح فيه، وقد تكون هذه القلة القليلة محصورة على الأرض التي نعيش فوقها، وقد يكون هنالك أمثالها على كواكب أخرى، لكنها على كل حال - في رأي الناس - لا تكون شيئا من حيث الكمية إذا قيست إلى مطارح الكون الشاسعة التي لا حياة فيها، بله أن تكون هذه الحياة مصحوبة بروح.
نامعلوم صفحہ