هبنا قد رغبنا في اختيار أصدقائنا اختيارا موفقا، فكم بيننا من له القدرة على هذا الاختيار؟ وإن وجدت القادرين، فما أضيق دائرة الاختيار! فإن المصادفة حينا، والضرورة حينا آخر، تكادان تكونان الوسيلتين اللتين تحدواننا إلى من نصطفي من الأصدقاء؛ فليس في مقدورنا أن نعرف من نحب أن نعرفه، بل إن هؤلاء الأصدقاء الذين اصطفيناهم بحكم الضرورة أو المصادفة قلما نجدهم إلى جانبنا حين تشتد بنا الحاجة إليهم.
ودع رجال الطبقة الأولى من النابغين، فلن تصل إليهم إلا في لحظات خاطفة، ولن يتاح لك أن تطالع فيهم إلا جانبا واحدا دون سائر الجوانب؛ فقد يسعفك حسن الحظ فتستمتع بلمحة من شاعر عظيم، وتسمع نبرة صوته، وقد يصيبك التوفيق فتلقي سؤالا على قطب من أقطاب العلم ليجيبك عنه في طمأنينة ورضى، وقد تقحم نفسك إقحاما لتظفر بحديث من وزير، لا يطول أكثر من دقائق عشر، وقد يجيبك فيه الوزير بما هو شر من الصمت، وقد يشاء لك حسن الطالع، مرة أو اثنتين إبان الحياة، فيتيح لك الفرصة لتلقي باقة من الورد في طريق إحدى الأميرات، أو لتجذب من الملكة وهي سائرة نظرة عاطفة. إن هذه جميعا فرص قلما يجود بها الدهر ، ومع ذلك، فكم نطمع في هذه الفرص العابرة؟ كم ننفق من أعوامنا وعواطفنا وقوانا، لعلنا نظفر بمثل هذا النزر القليل؟! نصنع هذا، وتحت أيدينا جماعة من أمثال هؤلاء الجبابرة، ترجو رجاء يتصل ولا ينقطع، أن ننصت لهم ليتحدثوا إلينا ما يحلو لنا من حديث، مهما تكن منزلتنا من المجتمع، ومهما يكن العمل الذي نؤديه. على مقربة منا طائفة من أمثال هؤلاء، تتمنى لو تحدثت إلينا في أروع ما تستطيعه من لفظ، فإذا ما أعرناها أذنا مصغية، تقدمت لنا بالشكر الجميل! هي جماعة كثير عديدها رقيق خلقها، لا يضجرها أن تبقيها في انتظارك طول اليوم، تنتظر، لا لتهبك حظ الاستماع إلى حديثها العذب، بل لتكسب منك هذا الاستماع! هي طائفة من ملوك وساسة ينتظرونك بصبر فارغ، ويشوقهم أن تدنو منهم في غرفهم التي اكتفوا فيها بأثاث ساذج، وأعني بها رفوف المكاتب ... ألأن رجاءهم في أن ننصت إلى حديثهم قد بلغ هذا المبلغ، ترانا لا نستمع قط إلى كلمة مما ينطقون؟!
قد يذهب بكم الظن إلى أن ازدراء الناس لهذه الجماعة النبيلة، متى تتوسل إليهم أن يصغوا إلى حديثها، في الوقت الذي يتحرقون فيه إلى محادثة طائفة أخرى، ربما كانت من الضعة بمكان، وهي طائفة تحتقرهم وليس لديها ما تعلمهم إياه؛ أقول إن الظن قد يذهب بكم إلى أن ازدراءنا لتلك الجماعة، ورجاءنا أن نتعقب هذه الطائفة من عظماء الأحياء، قائمان على هذا الأساس، وهو أننا إذ نحدث الأحياء، نشاهد وجوههم وذلك أدعى إلى اتصالنا بنفوسهم - ونفوسهم دون أقوالهم - هي الغرض المنشود ... ولكن ذلك زعم باطل، فافرض أنك لن ترى وجوه العظماء الأحياء، ثم افرض أنه قد أتيح لك أن تقف وراء ستار في مجلس الوزراء أو في غرفة أمير من الأمراء، ألا يسرك أن تنصت إلى حديث هؤلاء من وراء الستار؟ فإذا ما نقصنا لك من سمك الحائل، وجعلناه لك من جناحين بعد أن كان ذا أجنحة أربعة، أعني إذا دعوناك أن تختفي وراء غلاف الكتاب، لتنصت طيلة يومك، لا إلى حديث عارض، بل إلى حديث انتقاه وتعمق فيه أنبغ الرجال، إذا دعوناك إلى مثل هذا الموقف لتستمع إلى هذا الجمع المصطفى النبيل، كان جوابك أن تشيح بوجهك ازورارا!
قد يقول معترض: إن السبب في ذلك هو أن الأحياء يتحدثون عن أمور عارضة، تتلذذ لسماعها لأنها تمس حياتنا مسا مباشرا، ولكن الأمر ليس كذلك؛ لأن الأحياء أنفسهم قد يحدثونك عن هذه الأمور العارضة فيما يكتبون أروع مما يحدثونك عنها في حديثهم الذي يطلقونه إطلاقا؛ ومع ذلك فأنت تحب أن تنصت إلى هذا الحديث المهمل، أكثر مما تحب أن تطالع تلك الكتابة المتقنة ... ولو أني أعترف أن لهذا العامل أثرا في نفسك؛ لأني أعلم أنك بين الكتب نفسها، تؤثر الكتابة السطحية السريعة على الكتابة الجيدة الدائمة - مع أن هذا النوع الثاني هو الكتب بمعناها الصحيح.
فالكتب صنفان؛ كتب أريد بها هذا الوقت الحاضر، وأخرى أريد بها أن تحيا على وجه الزمان. ولاحظ أني لا أفرق بهذا بين جيد الكتب ورديئها؛ إذ ليس الكتاب الرديء وحده هو الذي لا يبقى، وليس الكتاب الجيد وحده هو الذي يعيش؛ فهنالك كتب جيدة للساعة الراهنة وكتب جيدة للدهر كله، وهنالك كتب رديئة للساعة الراهنة وأخرى رديئة تعيش الدهر كله أيضا.
فالكتاب الجيد الذي يكتب للساعة الراهنة - ولا أتحدث عن الكتب الرديئة - هو حديث نافع لذيذ، يقوله شخص ليس في مكنتك أن تتحدث إليه عن غير هذا الطريق، فطبع من أجلك الكتاب ليحدثك، وكثيرا ما يكون حديثه نافعا أقصى النفع، فيعلمك ما تحب أن تعرفه، وكثيرا ما يكون حديثه ممتعا غاية المتاع، كما يقع حديث الصديق من نفس صديقه؛ فهذه القصص تروي لك عن الأسفار، وهذه المناقشات الذكية الطلية البارعة تدور حول المشكلات الغامضة، وهذه القصة الحية تسري العاطفة بين أجزائها، وهذه الحقائق يسوقها لك أصحابها الذين يتصلون بحوادث التاريخ الجارية؛ كل هذه كتب أريد بها الساعة الحاضرة، وهي تزداد كلما ازداد التعليم انتشارا، ولعلها تميز هذا العصر من سائر العصور السالفة، وهي ذخيرة هيئت لنا أسبابها ، وينبغي أن نقف إزاءها شاكرين، وأن يأخذنا الخجل إذا لم نحسن استخدامها.
ولكنا نسيء استخدام هذه الكتب أشد ما تكون الإساءة، إذا أجزنا لها أن تملأ فراغنا كله، بحيث تغتصب منا وقت الكتب الدائمة التي قصد بها أن تخلد على الدهر، وأعني بها الكتب بمعناها الصحيح؛ لأننا إن توخينا الدقة، فلسنا نعد الصنف الأول من الكتب كتبا على الإطلاق، بل هي في حقيقة أمرها خطابات أو صحف للأنباء طبعت طبعا أنيقا. إن الخطاب يأتيك من صديقك قد يكون لذيذا أو ضروريا اليوم، والصحيفة اليومية قد تكون ملائمة لساعة الإفطار، ولكنها بغير شك لا تصلح لقراءة اليوم كله. وكذلك قل في خطاب مطول يقص لك الأنباء الممتعة عن الفنادق والطرق والجو، في مكان معين خلال السنة الماضية، أو ينبئك بقصة لذيذة، أو يروي لك الوقائع الحقيقية في إحدى الحوادث؛ فمثل هذا لا يمكن أن يكون «كتابا» بمعنى الكلمة الدقيق، مهما يكن له من غلاف يصون جوانبه! وإذا لم يكن مثل هذا «كتابا» بمعنى اللفظ الصحيح، فلا ينبغي أن «نقرأه» بمعنى القراءة الصحيح.
إن الكتاب الذي أريد به أن يحدثك حديثا ما، لم يطبع كتابا إلا لأن كاتبه يعجز أن يتحدث إلى ألوف الناس دفعة واحدة، ولو استطاع لفعل؛ فما كتابه سوى نشر لصوته في أفق فسيح. إنك لا تستطيع أن تتحدث إلى صديقك في الهند، ولو استطعت لفعلت وما لجأت إلى الرسائل، ولكن ذلك فوق مقدورك، فأنت مضطر أن تكتب له ما يغني عن الحديث، فكتابتك عندئذ لا تزيد على أن تكون وسيلة تنقل بها صوتك إلى مكان بعيد، ومثل هذا كتاب مما كتب للساعة الراهنة، فأما الكتاب الحق فلم يرد به صاحبه أن يكون أداة لنقل صوته في نطاق واسع وكفى، بل أراد به أن يحتفظ بما فيه. إن الكاتب النابغ لديه ما يقوله وما يظن أنه حق ونافع وجميل، وهو يظن فوق ذلك أن لم يسبقه أحد إلى قول ما يقوله، بل وفي رأيه أن أحدا، كائنا من كان ، لا يستطيع أن يعبر عنه بمثل ما عبر هو، فهو إذن مضطر أن يسجل هذا التعبير واضحا، ومنغوما إذا استطاع. إنه حين استعرض حياته كلها، وجد أن هذا الذي يعبر عنه في كتابه، قد تجلى له أنه الحق، أو على أنه المنظر الرائع الذي أذن له قسطه من الأرض وضوء الشمس أن يمسك به؛ ولذا فهو يريد أن يسجله إلى الأبد، يريد أن يحتفره في الصخر إذا استطاع، قائلا: «هذا أفضل جوانب حياتي، أما بقيتها، فقد أكلت وشربت ونمت وأحببت وكرهت كما يفعل سائر الناس. كانت حياتي كالبخار، وقد زالت الآن من الوجود أما هذا فقد رأيته وعرفته، هذا جدير أيها الناس أن تحفظوه في الذاكرة، إن كان من جوانبي ما هو خليق أن يحتفظ به.» تلك هي «كتابته»؛ تلك هي رسالته، فذلك «كتاب».
إني لأسألكم: هل تؤمنون بالشرف، وهل تثقون في الرحمة؟ أم هل تظنون أن حكماء الرجال لا يملكون من الشرف والخير شيئا؟ لا أحسب بيننا أحدا بلغ به التعس بحيث يظن هذا، فإن كان للرجل الحكيم شيء من الخير والشرف، فقد صبه في كتابه، أو في آيته الفنية. نعم قد يمزج خيره بفتات من الشر، فنراه - مثلا - سيئ التعبير، أو يعمد إلى التكرار الممل، ولكنك إن قرأته قراءة صحيحة، هان عليك أن تكشف فيه عن جوانب الحق، وتلك هي «الكتاب».
إن عصور التاريخ بأسرها قد شهدت هذا الضرب من الكتب الجيدة، كتبها أعظم من عاش في تلك العصور من الرجال؛ نوابغ القادة، وكبار الساسة، وفحول المفكرين؛ كل هؤلاء ينتظرونك لتنتقي من بينهم من تشاء، والحياة قصيرة الأمد. لقد سمعت قولي هذا من قبل، ولكن هل أيقنت كم تسع هذه الحياة القصيرة؟ هل علمت أنك إن قرأت هذا، فلن تستطيع أن تقرأ ذلك، وأنك إذا أضعت اليوم فلن تكسب الغد، هل يحلو لك أن تلغط مع خادمك أو سائسك، ويمكنك أن تتحدث إلى ملكات وملوك؟ أتحب أن تحادث العامة في لغوها، وأنت ترى هذه الطائفة الحافلة الخالدة تنتظرك بكل أعضائها، وهم كثيرون كثرة الأيام، هم الصفوة الممتازة في كل زمان وفي كل مكان؟ إنك تستطيع في كل لحظة أن تنخرط في سلك هذه الجماعة المختارة، يمكنك أن تكون عضوا بين أعضائها، وأن تضع نفسك في المنزلة التي تشاء، ولن يخرجك من هذه الزمرة الطيبة إلا خطأ يقع منك. إذا كنت تجاهد حقا أن تنزل بين الأحياء منزلة رفيعة، فها هو ذا مقياس ما في جهادك من صدق وإخلاص، فسنرى أي مكانة ستختار لنفسك في جماعة الخالدين.
نامعلوم صفحہ