هذا هو «الجديد» الذي أعلنه «سبنجارن» فجاء بعده كثيرون ينحون نحوه، وأعظمهم اليوم هو «بلاكمير» الذي تستطيع أن تعده عنوان النقد الأدبي في أمريكا الآن؛ يتناول «بلاكمير» الكتاب الذي يريد نقده، يتناوله سطرا سطرا في دقة وتعقب يهولانك، وهو صارم جدا في تطبيق هذا المذهب «الجديد» ويعسر الحساب إيما عسر مع الكاتب أو الشاعر، فلا بد لكل كلمة أن تؤدي معناها الذي تعارفنا عليه، ولا بد لكل عبارة أن يكون لها مدلولها من منطوقها، ومن كلامه أن الشاعر يستحيل أن يستبيح لنفسه نسبة المعاني إلى الألفاظ كما شاء هو لا كما شاء العرف والاصطلاح الجاري، ويظل مع ذلك شاعرا عظيما، إن للألفاظ معاني اكتسبتها على مر الأيام، فإن أراد الشاعر أن ينقل إلينا شعوره محددا واضحا لا لبس فيه ولا إبهام، فعليه باستخدام الألفاظ لتدل على معانيها. •••
تلك هي مدرسة «النقد الجديد» في أمريكا اليوم، فهل يسع دارسا عربيا إلا أن يسأل: أين الجديد؟ وأين إذن ذهب عبد القاهر الجرجاني والآمدي؟! فقد رأيت شبها شديدا بين «سبنجارن» و«عبد القاهر الجرجاني» كما رأيت شبها بين «بلاكمير» و«الآمدي».
فإن يكن «سبنجارن» قد ألح في أن تكون عبارة النص الأدبي هي مدار النقد، وأن يكون الحكم على الأثر الأدبي قائما على مقدار أداء العبارة للمعنى المراد ولا شيء غير ذلك، فقد ألح قبله عبد القاهر الجرجاني بتسعة قرون أو نحوها.
معروف بأن جودة الأثر الأدبي إنما تعتمد على «المعاني والأغراض التي يوضع لها الكلام» كما تعتمد على مواقع العبارات بعضها من بعض واستعمال بعضها مع بعض، ألح عبد القاهر قبل سبنجارن بتسعة قرون في القول بأن تكون «الألفاظ خدم المعاني» وبأن العبرة لا تكون في الألفاظ مفردة، بل فيها مركبة في عبارات؛ لأن اللغة - كما يقول عبد القاهر - «ليست مجموعة ألفاظ بل مجموعة علاقات.» ومهمة الناقد الأدبي هي البحث في تركيبة العلاقات اللفظية التي يراها أمامه ليحكم بمقتضاها، فإن قال الناقد: هذه عبارة جميلة. ثم إذا سألناه: ما أساس جمالها؟ عرف كيف يجيب لأنه سيشير إلى خصائص في العلاقة الكائنة بين ألفاظها من حيث الاختيار والتقديم والتأخير والحذف والتصريح وما إلى ذلك.
كذلك وجدت شبها قويا بين «بلاكمير» و«الآمدي» في هذا البحث التفصيلي الذي لا يبيح صاحبه لنفسه أن يقول حكما عاما على كاتب أو شاعر، بل يحكم على هذه العبارة من كلامه، أو هذه الصفحة من كتابه، وحتى إن عمم الحكم بعد هذا التخصيص فسيكون تعميما على أساس علمي صحيح، «بلاكمير» و«الآمدي» كلاهما يضطلع في النقد بمهمة الجبابرة، كلاهما حتى الضمير يقلقه أن يترك بيتا من الشعر من غير فحص اعتمادا على بيت سواه، كلاهما ينقد ما أمامه من نصوص ولا يتحزب قبل ذلك سلبا أو إيجابا، وإذن فهؤلاء الأربعة؛ الأمريكيان «سبنجارن» و«بلاكمير»، والعربيان «الآمدي» و«عبد القاهر الجرجاني» - إذا لم أكن مخطئا في هذه الموازنة - يقيمون أحكامهم الأدبية على دراسة النص جزءا جزءا؛ ولذلك ففي مستطاعهم أن يعللوا أذواقهم بما يمكن أن يسمى تعليلا علميا.
على أن الأعظم لا يكون دائما هو الأشهر والأوسع ذيوعا وشيوعا، ففي منزلة أدنى من منزلة «بلاكمير» اليوم، نضع ناقدا آخر هو «بيرك» على الرغم من أن «بيرك» أقرب إلى نفوس القراء وأكثر بينهم ذكرا؛ ذلك لأنه يجعل من النقد تحليلا نفسيا، ثم يجعل تحليله النفسي على أساس من نظرية فرويد، تراه - مثلا - يقول: لماذا أكثر هذا الكاتب من ذكر الجبال؟ لا بد أن يكون ذلك رمزا إلى شيء في عقله الباطن؛ فالجبال توحي بالصعود، والصعود بما فيه من خطوات متتابعة متناغمة دليل على شيء مكبوت في نفس الكاتب! مهمة النقد عند «بيرك» أن يكشف عن نفس الكاتب من كتابته، إذن فهو من مدرسة نقدية غير المدرسة التي أنشأها سبنجارن وتبعه فيها بلاكمير؛ لأن مدار البحث هنا هو الكاتب لا الكتاب.
ويخيل إلي أن هذا الاتجاه النفسي في النقد الأدبي هو الذي يسيطر على المشتغلين بالنقد عندنا في مصر، وخصوصا أساتذة كليات الآداب، ولست أنا بمن يستطيع القول الفصل في ذلك؛ فلهم دراساتهم ولهم آراؤهم، لكني أعتقد - وهو اعتقاد رجل ليس البحث الأدبي الجامعي اختصاصه - أعتقد أن الاتجاه النفسي في دراسة الأدب مجال للتخمين، وهو بعد ذلك يبحث شيئا غير الأدب؛ لأن الكاتب إنسان وليس هو بالقطعة الأدبية، والمنوط بدراسته باعتباره إنسانا هو عالم النفس لا الناقد الأدبي، وفي رأيي أن النقد الأدبي لن يكون جادا مجديا إلا إذا جعلنا النصوص الأدبية مدار التحليل والدرس.
هذان اتجاهان ملحوظان في النقد الأدبي في أمريكا، وليسا هما بكل ما عساك ملاقيه فيما يكتبه النقاد؛ لأنك ستجد مجموعة كبيرة جدا من أساتذة الجامعات ينقدون نقدا شارحا؛ فالشرح عندهم هو النقد، وستجد مجموعة كبيرة جدا من نقدة الصحف اليومية والمجلات الشعبية، يجيدون العرض، لكنه سلعة في السوق لا يظهر فيه مذهب أدبي واضح المعالم.
العرب والأدب المسرحي
في فاتحة «فاوست» ترى مفستوفوليس يشكو إلى السماء ملل الحياة، لكن الملائكة لم تفهم عنه شكواه، وراحت تتغنى بما في الحياة من جدة ونضارة؛ ولعل مفستوفوليس في نظرته الباردة الفاترة يمثل كل من تمرس بتجارب الحياة حتى عرك عودها وعرف حلوها ومرها، وخيرها وشرها، ولم يعد فيها له من جديد، وأما الملائكة - ها هنا - فتمثل النظرة اليافعة البريئة التي ترى في كل شيء جدة لا تزول ولا تبلى؛ مفستوفوليس ينظر إلى الأمور نظرة الشيخ دقت نظرته واستقام رأيه واعتدل في يده الميزان، والملائكة - ها هنا - تنظر إلى الأشياء نظرة الطفل الفرح المرح الذي يلهو بالحياة لهوا يصرفه عن إدراك مقوماتها وعناصرها.
نامعلوم صفحہ