ومع ذلك فإننا نحب أن يتدبر دكتورنا الفقرات الآتية من منهج الأستاذ لانسون.
قال ذلك الناقد العظيم: «إذا كان النص الأدبي يختلف عن الوثيقة التاريخية بما يثير لدينا من استجابات فنية وعاطفية، فإنه يكون من الغرابة والتناقض أن ندل على هذا الفارق في تعريف الأدب، ثم لا نحسب له حسابا في المنهج. لن نعرف قط نبيذا بتحليله تحليلا كيمياويا أو بتقرير الخبراء دون أن نذوقه بأنفسنا، وكذلك الأمر في الأدب؛ فلا يمكن أن يحل شيء محل «التذوق». وإذا كان من النافع لمؤرخ الفن أن يقف أمام لوحات زيتية مثل «يوم الحساب» أو «حلقة الليل» وإذا لم يكن ثمة وصف في قائمة متحف أو تحليل فني يستطيع أن يحل محل إحساس العين، فكذلك نحن لا نستطيع أن نتطلع إلى تعريف أو تقدير لصفات مؤلف أدبي أو قوته ما لم نعرض أنفسنا أولا لتأثيره تعريضا مباشرا، تعريضا ساذجا.»
ثم يضيف: «وإذا كانت أولى قواعد المنهج العلمي هي إخضاع نفوسنا لموضوع دراستنا لكي ننظم وسائل المعرفة وفقا لطبيعة الشيء الذي نريد معرفته، فإننا نكون أكثر تمشيا مع الروح العلمية بإقرارنا بوجود التأثرية في دراستنا وتنظيم الدور الذي تلعبه فيها؛ وذلك لأنه لما كان إنكار الحقيقة الواقعة لا يمحوها، فإن هذا العنصر الشخصي الذي نحاول تنحيته سيتسلل في خبث إلى أعمالنا ويعمل غير خاضع لقاعدة. وما دامت التأثرية هي «المنهج الوحيد» الذي يمكننا من الإحساس بقوة المؤلفات وجمالها فلنستخدمه في ذلك صراحة، ولكن لنقصره على ذلك في عزم ولنعرف مع احتفاظنا كيف نميزه ونقدره ونراجعه ونحده، وهذه هي الشروط الأربعة لاستخدامه. ومرجع الكل هو عدم الخلط بين المعرفة والإحساس واصطناع الحذر حتى يصبح الإحساس وسيلة مشروعة للمعرفة.»
وإذن فأولى عمليات النقد هي التذوق، والتأثرية هي المنهج الوحيد الذي يمكننا من الإحساس بقوة المؤلفات وجمالها، والقول بغير ذلك لا نظنه يستقيم في بداهة العقول.
وأما أن الذوق يجب بعد ذلك إخضاعه لنظر العقل من جهة وتعليله من جهة أخرى، فذلك ما لا تناقض فيه، وها هو ناقدنا العظيم لانسون يطالب بأن «نميز» و«نقدر» و«نراجع» و«نحد» الذوق حتى يصبح وسيلة مشروعة للمعرفة. وما نخال دكتورنا الفيلسوف زكي نجيب محمود إلا مقرا بأن هذه العمليات من اختصاص العقل، مما يقطع بأننا لا نتناقض عندما ندعو إلى إخضاع الذوق ل «نظر العقل».
والواقع أننا عندما نقرأ نصا أدبيا «لا تكون استجابتنا الفنية في العادة تامة النقاء؛ إذ إن ما نسميه ذوقا ليس إلا مزيجا من المشاعر والعادات والأهواء التي تساهم فيها كل عناصر شخصيتنا المعنوية بشيء، ومن ثم يدخل في تأثراتنا الأدبية شيء من أخلاقنا ومعتقداتنا وشهواتنا.»
وإذن فالمجال واسع لإخضاع الذوق لنظر العقل؛ وذلك لأن الذوق - كما يقول لانسون - لا يقوم على الحاسة الفنية فحسب، بل تداخله كل تلك العناصر النفسية والأخلاقية والاجتماعية التي يشير إليها في الفقرة السابقة.
وإذا لم يكن هناك تناقض بين إعمال الذوق في الأدب وإخضاعه لنظر العقل، فكم يرتفع من باب أولى ذلك التناقض العجيب الذي زعمه الدكتور زكي بين الذوق وتعليله! أظن أن الأمر لا يحتاج إلى جدل؛ فباستطاعة كل منا - بحسب قدرته على الاستبطان واتساع أو ضيق أفقه ومعرفته - أن يذكر أسباب إعجابه بهذا البيت من الشعر أو ذاك دون أن يكون هناك تناقض بين الإعجاب وأسبابه، وإذا بقي بعد ذلك شيء - ولا بد أن يبقى ذلك الشيء - لا يمكن تعليله فهذا هو سر العبقرية عند الشاعر، وهذا هو ما يعبر عنه لانسون بقوله: «نحن لا نعرف قط كل العناصر التي تدخل في تكوين العبقرية، ولا نسبة كل عنصر في المركب، كما لا نستطيع أن نتنبأ بالناتج الذي سيصدر عن ذلك التركيب.» وما عبر عنه أيضا من قبل إسحق الموصلي بقوله: «إن من الأشياء أشياء تحيط بها المعرفة ، ولا تؤديها الصفة.» إذ معنى المعرفة هنا هو «الاستبطان»
Intuition
و«الصفة» معناها «التعبير بالألفاظ».
نامعلوم صفحہ