وكانت الجموع قد اصطفت وعادت إلى بيت حنا من حيث أتت، فدنا الشابان من الحفار فارس وسألاه أن يقدم بطاقتهما إلى صاحب المنزل، فلبى هذا طلبهما عن طيبة خاطر فأدخلا إلى القاعة الغاصة بالمدعوين، وأقبل عليهما رب البيت يصافحهما بوداد، فقال لهما: يظهر يا سيدي من البطاقة التي تكرمتما بها أنكما من رجال الأدب وأرباب الصحافة، ولا ريب أنكما ترغبان في مقابلتي حصة على انفراد.
فقال كبيرهما: نحن يا سيدي قد اغتنمنا أوقات العطلة لنضرب في نواحي لبناني، وقد ساقتنا التقادير إلى هذه القرية وأسعدنا الحظ أن نشهد يوم نعيمك، فجئنا نشترك مع ذويك في تقديم أخلص التهاني لك، ومع ذلك فإننا نمتن لك إن تكرمت علينا بزيادة الإيضاح على ما عرفناه.
فتبسم حنا وقال: أدركت المقصود، فإنكما لا تغفلان حتى في زمن العطلة عن اجتناء الأخبار، ونعما تفعلان، وإن كان لا بد من نشر مقالة فيما شهدتما اليوم فإني أرجو من فضلكما أمرا واحدا.
أجابا: مر فأمرك مطاع وكل حاجة مقضية.
قال حنا: إن رجائي أن توقظا القراء من سنة الغرور، وتستلفتا الأبصار، وتنتبها الخواطر إلى ما وراء المطامع من الخيبة والفشل، ووراء الأسفار في طلب المعادن من الأخطار، أجل، إن الله وفقني فتمكنت من إحراز نصيب من المال وافر، فالناس يغترون بمظاهر ما يرون، ويتعلمون عما تكبدت في سبيل ما جمعته، والله أعلم بما قاسيت من المتاعب والأكدار والأهوال حتى زهقت الروح قبل الحصول على النزر اليسير.
هذا، وقد خطر على بال حنا شقاؤه الماضي فصاح: آه ما أتعس مثل هذه الحياة! فإن الرجل يقضى عليه أن يتجرد نوعا ما من حريته فيأجر ذاته للغير، ويطأطئ رأسه، ويحني ظهره تحت الأثقال، ويقف بالأبواب متسولا، ويسوم نفسه ذلا فوق ذل، صابرا على قرس البرد ولفح الحر، معرضا روحه لأنواع المخاوف والأخطار، وما كنت لأعود إلى مثل تلك الحال ولو أعطيت مال قارون، فإني يشهد الحق لولا عون الله ينصرني ونور الأمل ينعشني، لمت كمدا أو قتلت نفسي يأسا، وطالما سألت الله أن يمن علي بالرجوع إلى بلادي، ولو كان قوتي الخبز والزيتون فأقضي العمر سعيدا في فقري وأعيش حرا على جبال لبنان الجميلة تحت سمائه البديعة.
ثم أشعل لفافة من التبغ وأردف حديثه بقوله: لقد مر الآن بخاطري ذكر حادث لا يسعني إلا أن أرويه لكما فتكرما بالإصغاء.
وكان الشابان آذانا تسمع وأعينهما شاخصة إلى حنا، ولسان حالهما يرجوه ألا يبخل عليهما بسرد كل ما لديه من الأخبار والتفاصيل، فقال: لما كنت في أوائل أيام دخولي إلى بلاد الترانسفال لم يكن لي أدنى خبرة بأخلاق أهلها، ففي ذات مساء عدت إلى منزلي بعد الفراغ من شغلي وكنت يومئذ ناظرا على أحد المناجم، وكنت أمرت بالذهاب في الغد إلى مدينة الرأس؛ لقضاء مهمة كلفني بها مدير المنجم، ولما خلوت في منزلي استولت علي عوامل السرور مما أحرزته من المال بجدي واقتصادي، وقوي في الأمل أن أفوز بثروة طائلة بها أبلغ المنى، فمر ببالي ذكر وطني وأهلي وخلاني، وطابت نفسي بذكرى أنيسة.
فغصت في بحر الأوهام والأماني، وفكرت في رجوعي إلى لبنان العزيز، وبيت أبنيه فيه، وهدايا أتحف بها أنيسة، وعيد أقيمه لنا يوم إكليلنا، وبقيت على تلك الحال أبني من الآمال قصورا شاهقة، وقد سها عن بالي أن الليل قد أرخى جلابيبه، وليس من نور يضيء في ظلمائه سوى نار سيكارتي.
فإذا بالباب يطرق، فصحت بالطارق أن ادخل.
نامعلوم صفحہ