وبينما هم في قيل وقال كان الغريب يجري حثيثا لا يلوي على عنان، وقد خيل له أن القرية كلها أضاءت بنور سماوي فتراءت له بمشاهد، لم يجد لها مثيلا في المدن والعواصم التي زارها في أسفاره، وقد لاحت الرياض لعينيه مكتسية بحلة خضراء بهيجة وزف إليه النسيم نفحات زكية تنعش القلوب، وبدت له البيوت الحقيرة بمظهر العظمة والجمال، وكأنه شغل عن الصبي فمال بكليته إلى دواعي الفرح والنعيم، وقد شخصت عينه إلى مكان بعيد كأن بصره يحاول أن يخرق حجابا كثيفا من شجر التوت يخفي عنه منعطف الطريق، وإذا بالغلام يجذبه بشدة ويهتف قائلا: هناك، هناك أنيسة مع أختي روزة.
وإذا بشبح أبيض ظهر بين خلال التوت، ثم تقرب فرأى المسافر ابنة ضريرة لم تعد في مقتبل العمر تقودها طفلة في الخامسة من عمرها.
فما وقعت على الضريرة عين المسافر إلا وقف في مكانه لا يتحرك وتأمل بحزن في تلك المسكينة وهي تمشي الهوينا نحوه ... أفتلك هي أنيسة المحبوبة ...؟ أفتلك هي الفتاة الجميلة التي لا تزال مطبوعة على صفحات قلبه صورتها اللطيفة؟ بيد أنه لم يكن إلا أخف من ارتداد الطرف حتى بادر مسرعا إلى الفتاة ولما دنا منها لم يتمالك أن صاح: أنيسة أنيسة.
فما سمعت الضريرة صوته، حتى شعرت في جسمها بهزة كادت تسقط بسببها مغشيا عليها، ثم تركت يد الابنة الصغيرة ومدت ذراعيها إلى الأمام، كأنها تطلب شيئا وصاحت: حنا حنا، وركضت إلى ذاك الذي ناداها وفي يدها صليب من الفضة أخرجته من صدرها وأشارت إليه بحركة لا توصف، ووقعت بين ذراعي حنا غنطوس، فحاول هذا أن يعانقها بمزيد الشوق فمانعته بلطف، وإذ ساءه امتناعها أمسكت بيده وقالت: يا حنا، لا أقوى على مثل هذا النعيم ... لكنني عاهدت الله ... فهيا بنا إلى المقبرة.
فلم يدرك الرجل لها غاية، غير أنه فهم من لهجتها أن لذلك سببا خطيرا فلبى طائعا، وسار بها إلى المقبرة وهو لا يبالي بالقرويين الذين تواردوا من كل صوب وأحدقوا بهما.
فمضت به أنيسة إلى إحدى زوايا المقبرة ودنت من بلاطة ضريح قد غار نصفها تحت التراب، فأومأت بيدها إليها وقالت: هنا رقدوا، ففهم مغزى كلامها وانحدرت من عينيه الدموع.
فأردفت أنيسة قائلة: أتذكر يا حنا ملتقانا هنا في يوم من أيام الربيع لخمسة وعشرين عاما مضت؟ لقد كنت في تلك الأيام أتمتع بنور الشمس ... وكانت الطبيعة حينئذ، كأنها في جذل والزهور تبسم عن ثغرها الفتان بين القبور، والطيور فوق أشجار المقبرة تغرد طربا، ونحن وحدنا كنا فريسة الأحزان، أو تذكر ذلك؟ - أذكره، كأنه جرى يوم أمس. - كنا نذرف الدموع؛ لأنك كنت عازما على السفر إلى الأقطار الشاسعة، فاستحلفتني بحق أمك التي أحببتها كأمي، أن أنتظر رجوعك فوعدتك بذلك، وقبلت منك عربونا على العهد بيننا، هذا الصليب الفضي، أتذكر يا حنا؟
فلم يحر الرجل جوابا وكادت تخنقه العبرات، وهو الذي لم يعبأ بالأخطار والأهوال أصبح يبكي ويشهق كالطفل.
فقالت أنيسة: لم يمض عام إلا جئت إلى هذا المقام في تاريخ يوم سفرك لأجدد العهد، وقد جددته أكثر من عشرين مرة، ولو طالت غيبتك أيضا لما أخلفت لك عهدا ولا ظننت بك سوءا، واليوم لا يسعدني الدهر بأن أمتع بمرآك عيني، بيد أنني أجدك قريبا مني وأسمع صوتك الشجي كمن ذي قبل، فكفاني نعيما يا إلهي، وما أنا بأهل لمثلها نعمة، فلنشكرن الله يا حنا على أنه جاد بجمع شملنا بعد مر الفراق، هيا نجثو ونستمطر غيث الرحمات على من رقدت هنا تحت الثرى وهي ترانا من العلى وتستمد لنا البركات.
قالت هذا وجثت على ركبتيها ولثمت بلاطة الضريح فاقتدى خطيبها بها، فهتفت قائلة: صل صل فقد عاهدت الله على ذلك.
نامعلوم صفحہ