كان المارة القليلون يتفرسون في وجهي، ثم يعبرون صامتين أو محركين رءوسهم أسفا، واقترب مني رجل يرتدي بدلة داكنة حائلة اللون، وفي يده حقيبة سوداء، ظننته حلاق الصحة القديم وتبين أنه شخص آخر ككل من أراهم، وقال: أي خدمة يا سيدنا البيه؟ اعتذرت له شاكرا، وقلت: إنني أستريح قليلا وأريح مفاصلي من التعب. كان كل شيء قد تغير في الشارع والشوارع المجاورة، ومع ذلك لم يتغير شيء، ما زال الوحل والبرك الصغيرة والبؤس وأكوام القمامة والذباب كما هي، ما زال الركود والهمود والجمود واليأس والتسليم يطوق كل شيء وكل حي، وشعرت بالنوبة تتحرك في أغوار البئر القديمة وحجارة ثقيلة تسقط فيها تباعا وتلطم أمواجها، وتدافعت الأمواج ولكن البكاء امتنع، وعصفت الأعاصير ولكن الصرخات اصطدمت بالسدود من كل نوع وحجم وشكل، ونهضت ذاهلا زائغ العينين من مجلسي بعد وقت لا أستطيع تحديده، وحضرت إلى البيت فكان ما كان وتفجر البركان. •••
هل كلمتك عن الورقة المطوية التي تركتها زهرة وسلمتها لي أختي؟ ها هي ذي، احتفظت بها مع بطاقتي وأوراقي الشخصية طوال ربع قرن أو يزيد. اقرأ بنفسك ما كتبته بخطها الذي يشبه النبش في التراب بأقدام الدجاج أو العصافير، أبلغوها بالزواج من التربي الذي كان يعرفه أبوها، ورحب به طلبا للستر؛ لأنه ميسور الرزق وسيكون زيتنا في دقيقنا، واستنجدت زهرة بالعالم السابح مع الأفلاك، فلم يعلم بشيء إلا بعد أن دفنت بقايا لحمها المتفحم هناك في المقبرة القديمة، وربما بالقرب من شجيرة الصبار، أقول المقبرة القديمة؛ لأنني ذهبت أبحث عنها، فقالوا إنها سويت بالأرض ونقلت العظام بأمر المجلس البلدي إلى المقبرة الجديدة، وحلت محلها محطة بنزين ومجزر آلي وسوق كبير لبيع المواشي والأغنام. هل تغير شيء يا معلمي العزيز؟ أنت سلمت بأن شيئا لن يتغير فصرت إلى ما صرت إليه، وأنا سلمت بأن شيئا لم يتغير وصممت على الرجوع إلى المهجر، واستئناف حياتي مع البحث في السماء، نعم، نعم.
لا تخش شيئا علي، تلميذك «الولد لا» تعلم أن يقول نعم، وسيرجع حتما إلى الجذور ويوصي بدفن عظامه مع عظام أهله في التراب نفسه، الذي انغرست فيه الجذور، طبعا ... طبعا.
انصرف أنت الآن مطمئنا وطمئنهم علي، وأرجوك أن توصيهم بفك قيودي، فلا داعي الآن لهذه القيود.
نقل دم
(1)
كيف يمكنه أن ينسى تلك الليلة عندما كان يتمشى على شاطئ النيل؟ لم تكن كغيرها من الليالي التي شهدت مسيرته المعتادة على الجسر التاريخي العتيق بحثا عن الراحة من تعب النهار وضوضائه، وتلهفا على شيء من السكون الذي أصبح في حكم المستحيلات، وتهيؤا للنوم الذي يعز عليه دائما ويسرق منه، وتطلعا لشعاع من الأمل يستقبل به مهام اليوم التالي وواجباته. لم يكن الشيء الذي ميز الليلة وحفر ذكراها في صدره كالجرح الغائر هو الضباب الخانق الذي لف خيمته الداكنة الكثيفة على السماء والأرض، وغشي الأطياف القليلة التي كانت تعبر به، وربما تأخذها الدهشة من رؤيتها له، وهو يتنزه في الجو الخانق المنذر بالمطر.
لا لم تكن ليلة عادية بل تحولا في المصير، نقلة مباغتة من خارج قطر الدائرة إلى مركزها، ثقبا في الضمير ظل يتسع منذ تأكد له أن الإلهات الثلاث المكلفات بنسج خيوط أقدار البشر على مغازلهن لن يستطعن أن يرتقنه مهما حاولن.
كان قد عبر الجسر في اتجاه الجزيرة الهادئة، التي يقع فيها مسكنه عندما سمع صرخة، دوت في أذنيه كاستغاثة غريق، تصلب في مكانه وفقد القدرة على الحركة، وأحس أن قوة طاغية قد تسلطت على أعضائه، وشلت ساقيه وقدميه، تلفت حوله في كل الاتجاهات فلم يشعر بشيء غير عادي، وخطر له أنه مر أثناء عبوره للجسر بأكثر من شبح يميل على سوره ولم يكلف نفسه حتى بالنظر إليها، وهو لا يذكر الآن هل كانت أشباح نساء أو رجال، شبان أو عجائز، ودوت الصرخة مرة أخرى ثلاث مرات في اتجاه الجنوب، وكأن صاحبها يرفع رأسه في كل مرة فوق الماء؛ بحثا عن اليد التي تنقذ الغريق، الأرض رمال ساخت فيها قدماه، جسده ينتفض ويرتج من داخله وخارجه العرق يتصبب من جبينه، بالرغم من زخات المطر المتلاحقة، توغلت الرعشة كالحمى في كيانه، وأخذت تحرك رأسه وأطرافه يمينا ويسارا، فتصور أنه ساعة مسمرة فوق حائط ولها أكثر من بندول يترنح كالمجنون، وماذا يفعل وهو لا يعرف العوم؟ هل هناك وقت للنداء والاستغاثة والصياح؟ وأين شرطة النجدة المخصصة للمساحات المائية، والمفروض أنها لا تتوقف عن التجول بقواربها في النهر، وفي هذا الوقت الذي تكثر فيه حوادث الانتحار أو الغرق أو الإغراق؟ توقف مكانه كالجثة المدلاة من حبل مشنقة، وتوقفت ساعته الجسدية وخرس كالحائط الذي التصقت به.
لم يدر هل يتقدم أو يتأخر، هل يصرخ أو يصمت، هل يجري إلى اليمين أم اليسار، وإلى الشمال أم الجنوب ، شعر أنه جذع شجرة يابسة يغوص بقوة قاهرة في كومة طين بلا حدود ولا أعماق، فاتت لحظات لم يسمع فيها أي صوت، خيل إليه أن ساعته بدأت تدق من جديد، وتحركت قدماه نحو بيته وهو من الخجل والعجز واليأس في غاية. إنه لم ير أحدا، وربما لم يره كذلك أحد، صحيح أنه سمع صوت الاستغاثة يخرق أذنيه ويخترق لحمه كالسكين الحادة، لكن من يضمن له أن هذا الصوت لم يكن وهما؟ وما الذي يؤكد أنه كان صوت استغاثة غريق أو غريقة، ولم يكن من عبث الصبية الفقراء الذين كثيرا ما رآهم يتجردون من ملابسهم البائسة، ويتنافسون على السباق ضد التيار في عرض النيل؟ من يضمن له أي شيء أو يؤكد له أي شيء؟ إنه لا يدري ولا يستطيع بعقله أن يحكم أو يثبت أو ينفي، لكن لماذا نفذت الصرخة إلى قلبه؟ ولماذا اتسع الخرق في ضميره يوما بعد يوم وسنة بعد سنة؟
نامعلوم صفحہ