في طريقي إلى المدرسة أو عند عودتي منها، ولم يحدث أبدا أن رأيته بالليل، في تلك الساعة التي تخرج فيها الأرواح من سجونها تحت الأرض، وتهرول في البيت أو تصرخ في النوافذ أو تلقي على الناس الأحجار من الشرفة، لكن لو حدث لي هذا، فهل أرى حقا شحاتة بك، هل سيجري ورائي كما قالت لي أمي بعصاه الطويلة وقامته النحيلة، ويلعنني بلغته المشهورة وهو يصيح: ابعدوا يا شحاتين يا غجر؟
وهل سأستطيع أن أرى وجهه النحيل الصغير كوجه الفأر، وعينيه الضيقتين اللتين تطقان بالشرر وقد وضع فوقها - كما أكدت أمي - نظارة بسلك مثل نظارات الصرافين؟
بقي السر مكتوما عني، وبقيت أسمع عنه همسا في البيت وفي المدرسة، كنت أمر عليه كل يوم فتتحرك شفتي - على الرغم مني وبحكم العادة - بقراءة الفاتحة أو بما أحفظه من سورة ياسين، لكنني لم أكن أنسى في الوقت نفسه أن أتأمله في عناد، وألاحظ نوافذه وبابه والخرابة محيطة به بدقة، ويقال: إنها مقبرة قديمة، تضم فيما تضمه رفات شحاتة بك وربما أيضا نظارته وعصاه، وأقول لنفسي بين الشك والسخرية والاستياء، إنه بيت مظلوم بكل تأكيد، وأن حقيقته مثل كل المساكين في هذه الدنيا، أفضل بكثير من سمعته، إلى أن جاء اليوم الذي رأيتها فيه، كنت أطوح حقيبتي إلى الأمام والخلف وأتعمد أن أمشي مشية من لا يكترث بالأرواح على اختلاف أنواعها، وحين أبصرتها في الشرفة، توقفت يدي عن حركتها، ونسيت قدمي الحجر الذي كانت تحرص على أن تدفعه من باب المدرسة إلى عتبة البيت، وتسمرت في مكاني أراقب الوجه الذابل العجوز، والشعر الفاحم المنثور في فوضى على العينين والصدر والكتفين، والجسد القصير النحيل المائل على حافة الشرفة يكاد أن يسقط منها، لا أدري حتى الآن ما الذي جذبني إليها، ولا ما الذي منعني من أن ألوذ بالفرار، لم يكن ما اعتراني خوفا، بل ربما كان خليطا من الحزن والدهشة والإشفاق والرغبة في حب الاستطلاع، ولا أدري لماذا نسيت كل ما قيل لي عن الأرواح والأشباح والبيت المسكون ، فقد كان هناك جسد لا أستطيع أن أشك فيه، جسد تستطيع عيناي أن تحيطا بكل أبعاده وقسماته، وكان هناك الوجه، الوجه الأبيض المعفر بالألم والتراب، والتجاعيد التي بدأت تهزم الشباب، أحسست أن المرأة تنظر إلي، لا بل تثبت عينيها في، عينيها الواسعتين الجامدتين اللتين كنت أبحث عن لونهما، وربما أتوقع في كل لحظة أن تسقط منهما الدموع فوق رأسي، وفجأة رأيت ذراعها اليمنى تتحرك وتشير إشارة خاطفة نحوي، اقتربت قليلا فوجدت اليد تشير بإلحاح، والصوت الخافت ينطلق - ربما من كيانها كله - ويهمس: تعال، تعال يا حبيبي!
لم أدر ماذا أفعل؟!
كان يمكن أن أقول: ماذا تريدين مني؟ أو من أنت؟ أو ما اسمك؟ أو أجري هاربا لأتخلص من الموقف كله، ولكن يدا لمست كتفي وهزته بقوة جعلتني أنزل عيني عن الشرفة لأرفعها إلى فلاح طويل، رأيت قدميه الحافيتين ولاحظت الحبل الذي يشد به بقرة نحيفة، تقف غير بعيد مني وتنظر هي الأخرى إلي بغير اهتمام: امش يا بني على داركم، دي مجنونة الله يشفيها ويشفي المسلمين، روح يا ابني على طول.
جررت ساقي بصعوبة، تطلعت إلى المرأة فوجدتها ما تزال تنظر إلي، كانت ذراعها قد توقفت عن الحركة، ويدها التي كانت تشير إلي تسند رأسها وتغيب في طيات الشعر الفاحم المنقوش، لم أدر إن كانت في الحقيقة تنظر إلي أو إلى الفلاح أو إلى البقرة، لكنني شعرت من بعيد أنها تمد لي حبلا من الحنان والدفء، يتابعني في كل خطوة، ويكاد يتلوى يائسا حولي دون أن يتمكن من تطويقي.
لم أنس في اليوم التالي أن أرفع عيني إلى الشرفة الخشبية القديمة باحثا عنها، ولا نسيت عند عودتي من المدرسة أن أفتش عنها في كل النوافذ المقفلة، كان يخيل إلي أنها تختبئ في مكان ما، وراء نافذة أو ستارة أو باب، وأنها تمد إلي الحبل الخفي باستمرار، وتعودت أن أتلكأ أمام البيت، مختلقا الأعذار التي تخفي حقيقتي عن المارة أو تلهيهم عني، كنت أفتح حقيبتي لغير سبب واضح، أو أخرج كتابا أطالع فيه بغير مناسبة، أو أقذف حجرا على السلالم المتآكلة دون كلل، أو ألعب بالنحلة الخشبية التي تنتهي بخيط في يدي، وأنا ساخط على نفسي لهذه الحيل السخيفة، كل هذا وعيني لا تغادر الشرفة التي أنتظر أن تفتح بين لحظة وأخرى، ليطل منها الوجه الذابل العجوز، ومرت أيام طويلة دون أن ألاحظ شيئا، اللهم إلا رجلا نحيلا شديد النحول، رأيته مرة يدخل البيت ثم يتوقف قليلا ويلتفت نحوي ليقول بسرعة ويأس شديد: امش يا شاطر.
إلى أن كان يوم سمعت نوافذ الشرفة تفتح فجأة، كانت هي بعينها، بالوجه الذابل العجوز والشعر الفاحم المنتشر في فوضى على العينين والصدر والكتفين، لم تكد تراني حتى أقبلت على السور الخشبي في لهفة، وأشارت إلي هاتفة: تعال، تعال يا حبيبي!
تشجعت وألقيت السؤال الذي أعددته منذ وقت طويل: ماذا تريدين؟!
قالت وهي تضع يدها على رقبتها كالمختنقة: أشرب، عطشانة يا حبيبي.
نامعلوم صفحہ