في كتاب «شجرة البؤس» للدكتور طه حسين، تصوير لجانب من حياة الناس في أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحاضر، وهو الجانب الذي يبين لنا كيف، وإلى أي حد بعيد، ينصاع هؤلاء الناس لما يشير به «الشيخ» حتى في أخص خصائص حياتهم، وكان لكل مشكلة مهما كان نوعها، حلها عند «الشيخ». وإذن فلم يكن التفكير العقلي عندهم هو المدار في تسيير الحياة - بل والحياة الخاصة - وإنما كان هو «الشيخ وما يحكم به»، وها قد انقضى الجزء الأكبر من القرن العشرين، وبعد كل ما كتبه محمد عبده، ولطفي السيد، وطه حسين، والعقاد، وهيكل وغيرهم من «المثقفين» شاء لي ربي أن أسمع بأذني أكثر من رجل وأكثر من امرأة - ممن ظفروا وظفرن بدرجات عليا من التعليم - يروون لمن يتحدثون إليهم أنهم اشتروا كذا، وباعوا كيت، وألحقوا أولادهم وبناتهم بالكلية الفلانية من الجامعة ... إلخ، بعد أن استشاروا «الشيخ »، وهذا معناه أن الصورة التي قدمها طه حسين في شجرة البؤس، ما زالت هي الصورة، وذهبت صرخات «المثقفين»، وذهب معها التعليم بكل درجاته السفلى والعليا، ذهب كل ذلك مع عواصف الريح، وكان مقصودا «بالشيخ» في الحالات التي ذكرتها، شيخ الجماعة الصوفية التي ينتمي إليها كل متكلم على حدة، وليست المؤاخذة هنا على الشيخ الذي تطلب منه الشورى، إذ هو على الأرجح رجل طيب القلب، سليم النية، ورع تقي، ولكن المؤاخذة على من يطلبون منه الرأي والإرشاد عندما لا يكون الرأي والإرشاد، مما يمكن الركون فيهما إلى القلوب الطيبة والنوايا الحسنة وحدها. وعلى أية حال، فالذي يعنيني هنا هو أن قرنا من الزمان قد انقضى، بين الفترة التي صورها طه حسين في «شجرة البؤس» والفترة التي تحيط بنا الآن، ومع ذلك فليس ثمة فرق جوهري في «النظرة» التي ينظر بها الناس إلى العلاقات السببية بين الظواهر، ونوع الإجراءات التي لا بد من اتخاذها لنغير موقفا نريد تغييره: أهي كلمات ينطق بها رجل طيب، أم هي إجراءات تستند إلى فكر علمي يربط المسببات بأسبابها، لا بل هنالك فرق بين الفترة التي صورها طه حسين في كتابه المذكور، وهي أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن، في إقليم معين من أقاليم مصر، والفترة الراهنة، والفرق هو أن أفراد الناس الذين ورد ذكرهم في «شجرة البؤس» هم «على قدر حالهم» «كما يقال» في درجة التعليم، وأما الذين أشرت إليهم ممن سمعت عنهم، ومنهم يلجئون إلى شيخ الجماعة الصوفية في حل مشكلاتهم، فهم من الحاصلين على أعلى مراتب التعليم. ومعنى ذلك كله هو أن حاجزا كثيفا يفصل فئة «المثقفين» وجمهرة الشعب، ومنها - كما أسلفت - المتعلمون الذين لم يضيفوا «ثقافة» إلى علمهم. ثم جاءت السنوات العشرون الأخيرة، فحدث خلالها تغير رهيب، إذ بينما لبثت جماعة «المثقفين» في عزلة وحدها دون سائر الشعب - المتعلمين منه وغير المتعلمين - انتقل محور الجذب، فبعد أن كانت جماعة المثقفين هي التي تحاول جذب الجمهور إلى أعلى، وأعني جذبه إلى أن تكون نظرته متجهة إلى المستقبل، أصبح جمهور الشعب هو الذي يحاول شد المثقفين - أصحاب الفكر الجديد - إلى أسفل، بحيث تتجه أنظارهم إلى الوراء. وواضح أنه أفلح - إلى حد كبير - في تحقيق ما أراد، وبات الصوت الأعلى لأصحاب الدعوة إلى أن يوكل الرأي في كثير من أمور الحياة إلى القلوب الطيبة، وتقلصت بقعة الزيت التي لا تزال بقيتها سابحة على سطح محيط هادئ، لا يريد لأحد أن يفسد عليه سكونه المريح.
كلمات تحت كلمات
كنا معا في جوف حوت طائر، يعبر بنا المحيط إلى أمريكا، لنقضي بضعة أيام في مهمة علمية دعينا من أجلها، وجلسنا على مقعدين متجاورين، فأخذنا نسمر حينا ونصمت حينا - كما هي عادة المسافرين - وفجأة، وبغير مقدمات قال لي: أنا لا أقرأ الصحف، أكتفي بنظرة خاطفة إلى صفحاتها الأولى، وتبقى الصحيفة مطوية كما اشتريتها، فرددت عليه مسرعا: وأنا كذلك أفعل، ثم بدأت معنا بعد ذلك فترة صمت طويلة، أسندت خلالها رأسي على ظهر مقعدي، وتقاطرت الخواطر تترى، خاطر منها يشد خاطرا. وأما الخاطر الذي بدأت به السلسلة، فهو - بالطبع - ما قاله زميل السفر عن قراءته - أو عدم قراءته - للصخف، وما رددت به عليه! فمنذ اللحظة الأولى لم تخامرني ذرة شك في أنه لم يكن في قوله صادقا، كما أني أعلم عن نفسي علم اليقين أنني كذلك لم أكن صادقا في الرد، فلا هو ممن يتركون الصحيفة مطوية غير مقروءة، ولا أنا! فلماذا كذب ولماذا كذبت؟ على أن كلينا حين كذب، فإنما كذب في ظاهر القول ليكون صادقا مع خوالج النفس من باطن، فهو حين قال إنه لا يمس الصحيفة إلا بلمحة سريعة وهو منها على مبعدة، فإنما أراد أن يقول لي: أنا لا أقرأ ما تكتبه، بل ولا أعلم أنك تكتب، فلئن كذبني القول في الظاهر، فلا شك أنه قد كان صادقا في التعبير عن شعوره أو قل في التعبير عن نفوره! وأما أنا حين رددت عليه كذبا بأنني كذلك أفعل مع الصحيفة كما يفعل أردت أن أقول - صادقا: لا عليك، وماذا لو قرأت؟ لن يتغير من الأمر شيء لا خيرا ولا شرا.
كلانا نطق بكلمات لم يردها، ودس تحتها كلمات خرساء، وكانت هي التي أرادها. تلك كانت فاتحة خواطري؛ إذ أسندت رأسي على ظهر مقعدي، مفتوح العينين، لكني لا أنظر بهما إلى شيء! وكان أول ما توارد بعد ذلك من خواطر، هو أن تذكرت عبارة عن طبيعة الشعر، قالها ناقد إنجليزي، وقرأتها له، غير أني لا أذكر أين قرأتها، ولا متى، بل لا أذكر اسم قائلها، وماذا يعنيني من كل ذلك ما دمت أذكر العبارة نفسها، كما أذكر كم رأيت فيها من الصدق، وما أزال أرى، فهي تقول في تعريف الشعر: إنه كلمات تحت كلمات. وفي هذا القول الموجز إشارة إلى كثير جدا مما يميز لغة الشعر من لغة العلم، بل إن الأمر في ذلك لا يقتصر على الشعر وحده دون سائر الأجناس الأدبية، بل إنه ليصدق على لغة الأدب، كائنة ما كانت صورته، إذا ما قورن بالعلم، فالمثل الأعلى في دنيا «العلوم» هو أن يجيء المصطلح العلمي محدد المعنى تحديدا لا لبس فيه ولا غموض ولا ترادف ولا إيحاء ولا أي شيء من شأنه أن يجعل المصطلح العلمي دالا على أكثر من مدلول واحد، فلا تحته مدلول آخر، ولا فوقه ولا إلى جواره، فإذا قلت كلمة «مثلث»، فيستحيل أن تعني في علم الهندسة إلا المثلث بتعريفه المحدد، وإذا قلت «أوكسجين» فلن يفهم من الكلمة إلا ما أراده علم الطبيعة بهذا الاسم، حاملا للخصائص المعينة المحددة التي يتميز بها ذلك العنصر. هذا هو العلم وما يقيد نفسه به في لغته. ولما كان مثل ذلك التحديد القاطع للمعاني، قلما يتوافر في اللغة المتداولة في الحياة الجارية، لجأ العلم - كلما أمكن ذلك - إلى خلق لغة خاصة به، قوامها رموز من حروف أو أرقام، حتى لا يفسح المجال لأحد أن يفهم من المصطلح العلمي، أو من العبارة العلمية إلا شيئا واحدا فقط، هو ما اتفق على أن يكون مدلول ذلك المصطلح أو تلك العبارة. وبقدر ما يتعذر على علم من العلوم تحويل لغته إلى مصطلح لا تشاركه فيه لغة الحياة الجارية بين الناس يكون بعد ذلك العلم عن الدقة المثلى كما هي الحال في مواضع كثيرة من العلوم الإنسانية.
وأما الشعر - والأدب عامة - فشأنه في لغته غير ذلك، فلئن كان المثل الأعلى عند العلم أن يحال دون ازدواجية المعنى للمصطلح الواحد أو العبارة الواحدة، فالمثل الأعلى في لغة الشعر هو أن توحي اللفظة الواحدة، أو العبارة الواحدة، بألف معنى ومعنى إذا أمكن ذلك. موضع المباهاة عند العلم أن كل قارئ له، مهما كان مكانه أو زمانه، فهو ككل قارئ آخر من حيث المدلول الذي يشير إليه الرمز العلمي، وأما موضع المباهاة عند الشعر، فهو أن يفهمه كل قارئ على نحو يختلف به عن سائر قرائه، وكلما كانت اللغة التي استخدمها الشاعر في شعره قابلة لتعدد الإيحاءات وكثرة التأويلات، كان ذلك أدل على موهبته في اختيار ألفاظه وتركيب صوره. وبعبارة أخرى كلما كان تحت كلماته الظاهرة كلمات دفينة، يظهر منها شيء لكل قارئ وفق ما تستدعيه الخبرات السابقة لهذا القارئ كان الشاعر أعلى رتبة في موهبته الشعرية. ومن هذه النقطة نفسها جاز الغموض في الشعر؛ إذ كان من شأن ذلك الغموض أن تتعدد الإيحاءات عند مختلف القارئين، فإذا قال شاعر في وصف الخمر وكأسها إن زجاج الكأس قد رق وإن الخمر قد راقت إلى الحد الذي يتعذر معه على الرائي أن يفرق بينهما، فإما أن تكون الكأس المليئة بخمرها في عين الرائي خمرا بلا كأس، أو كأسا بلا خمر، أقول إن الشاعر إذا قال شيئا كهذا فهمه قارئ بالمعاني المباشرة لألفاظه، وفهمه قارئ آخر أنه إنما يعني قلبه وما امتلأ به من حب الله، حتى بات القلب ومحبوبه وكأنهما شيء واحد.
وإنما ضربت هذا المثل لأنه هو الذي ورد على ذهني وأنا أكتب هذه السطور، إذ تذكرت جلسة جلستها مع نفر من أدباء وشعراء منذ أعوام طويلة، وكان ذلك في بيروت - وا حسرتاه عليك يا بيروت - وحدث أن تغنى أحدهم بهذين البيتين:
رق الزجاج وراقت الخمر
فتشابها وتشاكل الأمر
فكأنما خمر ولا كأس
وكأنما كأس ولا خمر
نامعلوم صفحہ