معلم أنا مهنة وفطرة معا، فلو لم تسر بي ظروف حياتي نحو مهنة التعليم، لاخترت بطبيعتي أن أكون معلما، فلست أحب في هذه الدنيا الطويلة العريضة شيئا أكثر من حبي للمعرفة وشرحها وتوضيحها ونشرها، وذلك هو التعليم، لكنني إذا قلت ذلك عن نفسي، فكأنما قلت معه شيئا آخر، وهو أن المعرفة التي أحب تحصيلها وشرحها وتوضيحها، هي معرفة أومن بصوابها، فإذا عرفت ما يناقضها مما أظن فيه الخطأ ، استخدمته للمقارنات التي يزداد بها الصواب وضوحا في الأذهان.
ولو كانت المعرفة التي أبحث عنها، وأبحث فيها، وأنقلها إلى الآخرين تدريسا وكتابة، مما يندرج في العلوم الرياضية أو العلوم الطبيعية، لما قلت كلاما كهذا عن الصواب والخطأ؛ لأن تلك العلوم تبلغ من دقة النتائج ما لا يتركها نهبا للآراء والظنون، لكن المعرفة التي أشرت إليها تقع في مجال ما اصطلح على تسميته بالعلوم الإنسانية آنا، أو بالعلوم الاجتماعية آنا آخر، ثم هي معرفة تدور حول معان، فيها من السخاء ما يكاد يسمح لكل من شاء، أن يكون فيها صاحب رأي. وماذا أنت قائل في فكرة كالحضارة أو «الثقافة» أو «التقدم» أو أي عضو من أعضاء هذه الأسرة الضخمة من المعاني التي تتلفع بغلالات لطيفة من الضباب، الذي يظهر منها جانبا ويخفي جانبا؟ إنك إذا طرحت واحدا منها للنقاش، فتوقع أن تسمع من المشاركين في المناقشة عجبا من العجب، دون أن تجد بين يديك الوسائل الرادعة الفاصلة التي تحسم الرأي بين صواب وخطأ.
إننا في بحر هذه المعاني الضرورية رغم غموضها، والغامضة رغم ضرورتها، نضرب بأيدينا وبأرجلنا ضربا لا نضمن به أن نجتاز الموج العاتي لنبلغ شاطئ السكينة والأمان، ومع ذلك فلا مندوحة للسابحين في ذلك البحر عن السباحة؛ إذ هو حتم محتوم علينا أن نكون لأنفسنا من تلك المعاني الفضفاضة المتصلة بالثقافة والحضارة، صورة فيها من الوضوح حدا أدنى، يكفي للهداية في ميادين التعليم والإعلام. وهي الميادين التي تكاد تنفرد بواجب الإعداد للمستقبل المأمول، وإلا فكيف نصوغ الأهداف التي نريد لشبابنا أن يستهدفوها، إذا لم تكن أمامنا وأمامهم صورة لما نبتغي؟
ولقد كان نصيبي من الحياة، منذ الشباب وإلى الآن، أن أكون بالتعليم وبالكتابة، من المشاركين في محاولات رسم الصورة المستقبلية المنشودة، وأعترف هنا بأنني قد سرت الطريق على مرحلتين، كان لي في المرحلة الأولى تصور معين، ثم أدخلت على ذلك التصور تعديلا هاما في المرحلة الثانية. وليس في هذا التحول ما يعيب أحدا إلا من تشبث برأيه، حتى ولو ظهر بطلانه، والأمر في هذه التصورات - كما قلت - ليس أمر معادلات رياضية أو قوانين علمية، مما لا تعرف لنفسها إلا طريقا واحدا في العصر الواحد، بل هو أمر اجتهادات قوامها آراء وظنون.
فأما المرحلة الأولى من حياتي الفكرية، فقد كنت فيها لا أجد بديلا لصورة الحضارة الغربية كما هي في عصرنا؛ لأنها هي حضارة القوة والعلم والإبداع والمغامرة وتحقيق السيادة على الطبيعة، فتسخرها تسخيرا لا يقتصر نفعه على قلة من الناس، بل إن نفعها ليعم حتى يصل إلى أصغر كوخ في أقصى الأرض.
لكنني عدت بعد تلك المرحلة الأولى، فرأيت أنها وإن تكن ضرورية ضرورة الحتم الذي لا يدع مجالا للاختيار، إلا أنها ليست وحدها كافية؛ إذ لا بد أن تضيف إليها كل أمة ما يميزها من سمات ثقافية هي التي حددت لها هويتها، أبا عن جد، ثم عن جدود، يتعاقبون جميعا جيلا بعد جيل ليكونوا «تاريخا» واحدا موصول الحلقات.
ومنذ انفتحت عيناي على هذا الشرط الضروري، وضحت أمامي الصورة بكل قسماتها، وهي صورة لم يكفني لعرضها مقالة أو مقالتان، ولا كتاب أو كتابان، بل أخذت أكتب من الكتب - بادئا بكتاب الشرق الفنان سنة 1960م - ما يربو على عشرة، ومن المقالات عشرات، كلها يتناول الصيغة الثقافية المطلوب لها أن تكون محور نشاطنا.
وكان آخر محاولاتي في هذا السبيل، مقالة عنوانها «هيا إلى اقتحام العقبة»، والعقبة التي رأيت أننا لم نقتحمها بعد، فوقفت في طريقنا كأداء لا تسمح لأحد منا بسرعة السير، هي غموض اكتنف فكرتنا عن «الماضي»، وكيف يكون دوره في حياة الأحياء. وقد اضطررت في سبيل شرحي للفكرة التي أردت عرضها، أن أمهد لها بتوضيح للأساس الذي تنبني عليه رؤية العصر الذي نحياه، وهو أساس قد اختلف في عصرنا عما كانت عليه الحال في العصور السابقة. ولا بأس في أن نزيد الأمر وضوحا هنا، فنقول إن العصر المعين من عصور التاريخ عادة ما يبني تصوراته على أساس علم معين، تكون له السيادة بالنسبة لسائر العلوم، وكانت «الرياضة» هي النموذج أمام العقل البشري منذ اليونان الأقدمين. ومعنى ذلك أن جوهر ذلك النموذج الفكري هو «الثبات»؛ لأن الصورة الرياضية توحي بذلك ، فينتج عن نموذج الثبات نوع من الاتجاه عند الناس نحو أي موقف عقلي - بما في ذلك موقفهم من ماضيهم - خلاصته ألا مجال للتغيير فيه. وأما النموذج الفكري في عصرنا الراهن، فمستمد من علوم الأحياء (البيولوجيا)، فانظر إلى أي كائن حي، من نبات أو حيوان أو إنسان، تجد أمامك حقيقة من صورة أخرى غير الحقيقة الرياضية؛ إذ تجد أمامك حقيقة نامية، كل مرحلة من مراحلها مستندة إلى المرحلة التي سبقتها، لكنها لا تكررها، فالثمار والأوراق والفروع والجذع جميعا لا تستغني عن الجذور الغائرة في التربة؛ إذ هي تستمد من تلك الجذور ريها وغذاءها، لكنها مع ذلك أشياء مختلفة الصور والوظائف، لا تشبه الجذور لا صورة ولا وظيفة. وعلى هذا النموذج الحي ينظر الإنسان المعاصر إلى كل شيء، بما في ذلك حقيقة وجوده هو نفسه، ووجود ماضيه.
فكل حياتنا الحاضرة - من وجهة النظر البيولوجية هذه - تستمد حيويتها من ماضيها، كما تستمد الشجرة حيويتها من جذورها، لكن حياتنا الحاضرة مع ذلك ليست مطالبة بتكرار صور الماضي كما كانت، على نحو ما تكون الثمار والأوراق والفروع غير مطالبة بأن تتخذ صورة الجذور. والفرق بعيد بين الحالتين: حالة من يحيا ليكرر ماضيه، وحالة من يحيا ليحذو في الإبداع حذو الماضي فيما أبدع. خذ الشعر مثلا، فنحن لا نلزم الشاعر العربي الحديث أن يلتزم كل شيء التزمه الشاعر القديم، لكننا نلزمه أن يرتوي من الشعر القديم، حتى تمتلئ أوعيته بذوق عربي سليم، ثم يبدع ما شاءت له ملكاته أن يبدع؛ لأن القديم نفسه لم يكن على صورة واحدة مكررة، فليس الشعر في العصر العباسي هو كالشعر في العصر الأموي أو في الجاهلية، بل تغير في تفصيلات كثيرة. ومع ذلك ظل النموذج في فحولة الشعر عند النقاد، قائما على الشعر الجاهلي، كأنما جعلوه كالأصل الثابت من الشجرة، وأما فروعها فمن حقها أن تعلو في السماء، ما دامت موصولة بشريان الحياة مع ذلك الأصل الثابت.
ومسألة الماضي وعلاقتنا به هي اليوم في مقدمة المشكلات التي تتطلب النظر الجاد ، أكثر جدا مما كانت في أي مرحلة من مراحل تاريخنا؛ وذلك لأننا خلال تلك المراحل، لم نكن نواجه حضارة أخرى غير الحضارة التي كنا نعيشها مرحلة مرحلة. أما اليوم فتواجهنا حضارة أخرى غير حضارتنا، وهي حضارة العصر، التي إذا نحن أهملناها كنا كناطح صخرة ليوهنها، وإذا نحن انغمسنا في غمرها بغير حساب، كنا كمن ألقى بشخصه في العباب ليهلك. والسؤال الملح علينا هو: ماذا نحن فاعلون؟
نامعلوم صفحہ