فكيف بهم وقد ذلوا وخابوا؟
حارس المسلم هو «ضميره» من داخل ما ينفك يذكره - كلما وجد من أمره عسرا - أن الله أحد، وأن الله صمد، وأن الله أكبر، والكلام في هذا شرحه يطول ويتشعب ولست أظن أنه مما يكتفى فيه بمقال.
وهنا أقول إن عندي للقارئ همسة أهمس بها في أذنه، ليعلم منها ماذا كان الحافز الذي حفزني إلى كتابة هذه الأسطر في موضوع يستحق كتابا، والحافز هو أني قرأت في إحدى الصحف هذه الإجابة الآتية من أحد علماء الدين يجيب بها عن السؤال: هل يجوز في الوضوء المسح على الخفين والجورب؟ فأجاب سيادته بقوله: إن المسح على الخفين جائز من كل حدث موجب للوضوء إذا لبس الخفين على طهارة كاملة، ثم أحدث. ومدته إن كان مقيما مسح يوما وليلة، وإن كان مسافرا مسح ثلاثة أيام ولياليها عقب الحدث. والمسح على الخفين يكون على ظاهرهما خطوطا بالأصابع يبدأ من رءوس أصابع الرجل إلى مبدأ الساق. هو جائز في الحدث الموجب للوضوء لا الغسل. وفرض المسح على الخف يكون بمقدار ثلاثة أصابع من أصغر أصابع اليد طولا وعرضا، ولا يجوز المسح على خف فيه خرق كبير يظهر منه مقدار ثلاثة أصابع من الرجل.
هذه همسة همست بها في أذنك أيها القارئ الذكي الحصيف راجيا ألا تبوح بها عند الجيران، حتى لا يظن بنا الظنون في طريقة فهمنا للدين، ولكنني أطالبك أنت ومن أحاط بك من الزملاء بأن تحسب على جهاز الحاسب الإلكتروني إذا كانت بين يديك الوسائل كم فرسخا بين مثل هذا الفهم وفهم آخر يريد للمسلم أن يربي له ضميرا دينيا يهديه إلى لباب اللباب من عقيدته. وعندئذ فلا السائل يسأل مثل هذا السؤال ولا المجيب العالم يجيب بمثل هذه الإجابة، حتى إن وجدها محفوظة في الخزائن. وهل يحق لنا بعد ذلك بعد أن أصبح محور اهتماماتنا الدينية تفصيلات شكلية عجيبة لا تمس روح الدين وجوهره، ولا تحرك الضمير الديني عند الإنسان من قريب ولا من بعيد، أقول هل يحق لنا بعد ذلك أن نسأل ماذا أصاب شباب المسلمين ليصبحوا على ما أصبحوا عليه من هزال وضعف وانحراف؟
الشعائر وما وراءها
كنت قد نشرت مقالا بعنوان «تربية الضمير الديني» (الأهرام 26 ديسمبر 1982)، وكانت خلاصته هي أن الغاية التي يجب أن نستهدفها من التربية الدينية، هي إيجاد ذلك الضرب من الوجدان الديني، الذي من شأنه أن يهدي صاحبه - كلما جد موقف في الطريق - إلى اختيار السلوك الذي يعينه على تكامل شخصيته، تكاملا ينم عن «وحدانية» تلك الشخصية؛ لأن ما يحقق إسلام المسلم هو - في المقام الأول - أن يجسد في شخصه رسالة الإسلام. و«التوحيد» من تلك الرسالة هو في صميم الصميم. ثم أخذت أوضح في المقال ما كنت أعنيه.
فجاءتني رسالة من قارئة، لم أستطع إهمالها؛ لأنها تطلب مزيدا من التوضيح، لعلها تجد فيما قلته مرشدا لها في تربية أبنائها. ولقد شعرت عندئذ بأنه قد بات واجبا ملزما، ما دمت قد عرضت فكرة تمس حياة الناس، أن أتولى شرحها. والقارئة تستهل رسالتها بقولها: هذه رسالة من أم تدعو الله في صلاتها دائما، أن يقوي الإيمان الصادق، والتقوى، في قلوب أبنائها. ومضت صاحبة الرسالة لتشكو من أن هؤلاء الأبناء لا يستجيبون لها فيما تريده لهم تجاه حياتهم الدينية استجابة ترضيها، ثم كتبت تقول: إنني كنت أفكر في كيفية إيقاظ الضمير الديني عند أولادي، عندما لمحت لك في الأهرام مقالا في هذا المجال، وطبعا تلقفته بسرعة لقراءته، لعلي أجد فيه الحل لما يهمني، ثم أعدت قراءته، وأعدت قراءته لثالث مرة، وفهمت مضمونه العميق الشيق، الذي أعتقد أنه أسلوب عال لا يفهمه إلا طبقة المثقفين، ومع ذلك فلم أجد فيه حلا لمشكلتي مع أولادي، ولو تكرمت بإتباعه بمقال آخر عن الوسائل الفعالة لتربية الضمير الديني عند النشء. وبوضوح أكثر، أريد أن أعرف كيف أغرس في أولادي بالذات حب الصدق في كل أفعالهم (وقد وضعت صاحبة الرسالة خطا تحت كلمة «الصدق») وضربت مثلا بأنها إذا كانت ترقب ابنيها وهما يتوضآن، وكانت هي التي تصب لهما الماء للوضوء، غافلها أحدهما فلم يغسل قدميه، وغافلها الآخر فلم يغسل يديه، أما أولهما فقد علل فعلته ببرودة الجو، وأما الثاني فقد زعم أن غسل اليدين في الوضوء سنة وليس فرضا.
وأول ما أضعه بين يدي الأم الفاضلة صاحبة الرسالة، هو أن هذا الذي ذكرته عن أبنائها، إنما هو مثل واقعي محسوس، لظاهرة اجتماعية في حياتنا، طويلة عريضة عميقة هي ظاهرة تعدد المقاييس الخلقية، فلكل موقف عند الكثرة الغالبة منا مقياسه، فإذا كان الموقف مواجهة بين حاكم ومحكوم، فله مقياس لما نفصح عنه وما نخفيه، وإذا كان الموقف حديثا بين زميلين، تغير المقياس. وهكذا، وليس هنا مكان التحليل والتعليل لهذه الظاهرة كيف نشأت؟ ولماذا نشأت؟ وإذا كانت قد بدأت معنا نفاقا أيام أن كان الحاكم مستبدا أجنبيا، فكنا نخشى بأسه ونتملقه بما لم نكن نؤمن به في بواطن نفوسنا، فلماذا امتدت معنا الظاهرة إلى يومنا هذا، بل ربما تكون قد استفحلت في عشرات السنين الأخيرة؟
إن ما لحظته الأم في أبنائها، قد جاء بالمصادفة ساعة الوضوء، فأظهروا لها جانبا وحاولوا أن يخفوا عنها جانبا هم يعلمون أنها لا ترضى عنه، والأم في هذه الحالة هي «الرقيب» صاحب السلطان، والأبناء هم بمثابة «شعب» يخشى قسوة الرقيب، لكنها ازدواجية خلقية، هكذا تبدأ في أطفالنا - كائنة ما كانت المناسبة التي تظهر فيها - ثم تأخذ الزاوية بين الجانب المعلن للناس، والجانب الآخر الذي يضمرونه في أنفسهم، لا يكشفون عنه إلا للمخلصين، أقول إن الزاوية بين الجانبين تأخذ في الانفراج، كلما كبر الطفل، وجاءت له السن التي يشارك عندها في معمعان الحياة العملية، فعندئذ تعلمه الخبرة - في الكثرة الغالبة من الحالات - أن العامل الناجح في مجتمعنا، يكاد يكون شرطه أن يجيء على أساس من تعدد المقاييس الخلقية، فهم يعدون بيننا بألوف الألوف، أولئك الذين يعلنون أمام الناس شيئا، ثم يقيمون حياتهم الحقيقية على شيء آخر، كأن يعلنوا - مثلا - تفانيهم في الدعوة للاشتراكية والديمقراطية والمساواة المطلقة بين المواطنين، يكتبون ذلك في الصحف، ويذيعونه صوتا وصورة، ويخطبون فيه من فوق المنابر، حتى إذا ما قفلوا إلى حياتهم الخاصة، داخل بيوتهم وبين أسرهم، كانت لهم أهداف أخرى يرتبون نشاطهم الحيوي على أسسها، فالاشتراكية تنقلب عندهم سعيا خبيثا لاكتناز رءوس المال، التي أصبحت اليوم تعد بلغة الملايين بعد أن لم نكن نسمع عن لفظة «الملايين» هذه إلا عندما تتحدث الحكومة عن موازناتها السنوية.
أصبحت الديمقراطية عندهم تعاليا بأشخاصهم على عباد الله ما وجدوا سبيلا إلى هذا التعالي، فما كل فرد من الناس بقادر على صعود الدرج، وتأبى طبائع الأمور إلا أن تنجح في هذا التعالي قلة قليلة، ليظل الباقون «شعبا» أو «قاعدة عريضة» أو «جماهير»، أو أي اسم آخر من هذه الأسماء التي يجيدون صياغتها لتكون بين أيديهم جزءا من أدوات النجاح. وكذلك إذا ما قفلوا إلى ديارهم وبين ذويهم، تبخرت «المساواة» التي نادوا بها كما تتبخر قطرات الندى في حرارة الشمس أيام الصيف. وهل أنسى ما حييت موقفا رأيت فيه من ذلك عجبا، وكان ذلك يوم أن عاد إلى الجامعة نفر ممن كانوا وزراء في وزارة بلغت أجلها، فاشترط بعضهم أن تؤثث لهم غرف خاصة، وكأنهم ما زالوا وزراء، وغضب أحدهم غضبة لا بد أن تكون أعنف من الغضبة «المضرية» التي أشار إليها الشاعر القديم، فأنا لا أعرف كيف كانت صورة الغضب في قبيلة «مضر»، لكنني رأيت غضبة صاحبنا وفضها، لماذا؟ لأن باحثا علميا أراد أن يحصي ما أنتجه الجامعيون من بحوث في موضوع ما، فأعد قائمة يستبين بها تفصيلات الموضوع، وأرسل نسخات من تلك القائمة لمن كان يعلم أن لهم نتاجا يدخل في الحساب، فاحمر وجه الوزير السابق واصفر واخضر، غضبا من هذه الإهانة الكبرى التي لحقته حين عاملوه كما يعاملون خلق الله، وأرسلوا له القائمة في البريد، وكان الواجب أن يمثل الباحث العلمي بين يديه في خشوع طلبا لما يريد. وهل من شك في أن ذلك الوزير حين كان يكتب ويخطب ويذيع، كان يشتعل حماسة في الدعوة إلى «المساواة»؟
نامعلوم صفحہ