وأما الفكرة التي أعنيها، فهي فكرة «الولاء» ما هو على وجه الدقة؟ ولمن يكون؟ وكان الذي أثار السؤال في نفسي صورة شهدتها في التليفزيون لجماعة من الشباب، تهتف بالفداء بأرواحها ودمائها «ولاء» لمن تفتديه بتلك الأرواح والدماء. والحق أني شعرت وقتئذ أن في الصورة شيئا يثير القلق، ويتطلب التصحيح. ولعلي لم أقع عليه محددا واضحا، وإنما هو مجرد شعور سرى في نفسي لحظتها بأن شيئا ما يريد التصحيح. وهنا تركت الأمر - كما قلت - للصباح الرباح، وأسلمت نفسي للنعاس، والحمد لله على ما أنعم به علي وهو كثير، منه أن النعاس عندي مناله قريب، لا أكاد أضع رأسي على وسادتي، حتى أعبر العتبة إلى العالم المسحور، وأوشك ألا أعرف الأرق إلا سماعا مما يقوله عنه الآخرون.
ودخلت ليلتها ذلك العالم المسحور - عالم الأحلام - فارتسمت لي اللوحة ناصعة، وكان بطلها سقراط، وها هنا يأتي موضع المقدمة الثانية التي أشعر أنه لا بد من تقديمها بين يدي القارئ، لأمهد له سبيل مشاركتي فيما أنا بصدد عرضه عليه، فقد لا يكون القارئ على علم كاف بذلك الفيلسوف اليوناني القديم، فأحب له الآن أن يعرف عنه بعض جوانبه، قبل أن أحكي له قصة الرؤيا التي رأيتها في الحلم، والتي كان سقراط بطلها ومحورها.
والذي أريد للقارئ أن يعرفه الآن عن سقراط، أمران: أولهما أنه كان كلما دفعه حب المعرفة إلى أن يعلم حقيقة ما، لجأ إلى المختصين بها ليلتمس عندهم معرفة ما أراد أن يعرفه، لكنه في كل مرة كان يرجع خائب الرجاء، فافرض - مثلا - أنه أراد أن يعرف شيئا عن حقيقة الفن، فقد كان يتجه إلى من عرف عنهم الاشتغال بالفن، فيسألهم، وإذا هم بعد قليل من محاورة بينه وبينهم، يتبين - له ولهم - أنهم لا يعلمون عن حقيقة الفن شيئا. وهكذا أخذ الفيلسوف يقضي أيامه، باحثا عند المختصين عن حقائق المعاني التي ما تنفك ألسنتهم تلوكها، والتي يزعمون أنهم العارفون بها ظاهرا وباطنا، فإذا هو أمام من هم أشد جهلا منه بما ادعوا الإلمام به والتخصص فيه.
ذلك أحد الأمرين اللذين أردت للقارئ أن يعرفهما الآن عن سقراط، وأما الأمر الثاني فهو أن ذلك الرجل إنما يحتل في تاريخ الفكر الإنساني مكانا استراتيجيا خطيرا؛ لأنه جاء إلى الناس ومعه منهج جديد، يراد به أن يتحول الحديث عن الإنسان وحياته، من الغموض العائم إلى الدقة العلمية التي تشبه دقة الرياضة، فلا يكفي مثلا أن يقول القائل كلمة «تقوى» بل لا بد له أن يحدد لنا ما هي، على نحو ما يحدد معنى المثلث في الرياضة، بأنه سطح مستو محوط بثلاثة خطوط مستقيمة (ولقد ضربت مثل «التقوى»؛ لأنه كان بالفعل موضوعا للمحاورة بين سقراط ورجل ادعى لنفسه معرفة معناها بالدقة العلمية التي كان ينشدها سقراط)، وإني لأصارح القارئ - في هذه المناسبة - بأنني ما تمنيت شيئا لحياتنا الفكرية الراهنة، بكل جوانبها السياسية والاجتماعية والثقافية، أعز وأهم من أن يجد الناس من يلزمهم بالتحديد الواضح الدقيق لكل ما يعرضونه من أفكار في ميادين الشئون العامة، إذ لو سئلت: ما هي العلة الأولى في حياتنا الفكرية تلك؟ لأسرعت بالجواب قائلا: هي جهل الناس بحقائق المعاني التي يتداولونها زاعمين لها الوضوح، وربما كان مثل هذا العوم في بحر من الغموض، شبيها بما وجده سقراط في أهل أثينا، فأراد أن ينبه إليه الأذهان. ولنا الآن بعد أن فرغنا من هذه المقدمات، أن ننتقل إلى ما وافتني به الرؤيا، عما كان يشغل خاطري ليلتها، عندما سمعت هتاف جماعات الشباب باستعدادهم للتضحية بأرواحهم ودمائهم في سبيل «الولاء»، فكان أن سألت نفسي: الولاء ما هو؟ والولاء لمن؟
رأيتني في الحلم جالسا تحت عريشة على شاطئ النيل، وكأنما المكان هو نفسه الموقع الذي عرفته في قريتنا وبه «زاوية» للصلاة، خلال طفولتي وصدر شبابي، وكان معي تحت العريشة ثلاثة أشخاص، كان أحدهم هو نفسه سقراط الذي أعرف صورته بعينيه الجاحظتين وأنفه الأفطس، وأما الآخران فشابان يبدو أنهما طالبان، وكنا نحن الأربعة نجلس على حصيرة فرشت بها الأرض، وكان الوقت بعد الغروب بقليل، ولا أدري متى وكيف التحقت بتلك المجموعة؛ لأنني لم أذكر الحلم إلا والحوار بين الثلاثة قد انقضى أوله، وأخذ في مرحلته الوسطى، وفيما يلي ما وعته ذاكرتي مما دار به الحديث، على أني جلست خلاله صامتا، ولم يعترض منهم أحد على هذا الصمت المنصت:
سقراط :
لا بد أن تكون على أيقن يقين بمعنى «الولاء» ما دمت على استعداد للتضحية بالروح وبالدم لمن أنت ولي له، واسمح لي هنا بملاحظة صغيرة: لماذا ورد ذكر الدم في ترتيب الفداء بعد الروح، مع أنك إذا بدأت بالروح فلا يبقى لك بعد ذلك دم تقدمه؟
الشاب الأول :
أشكرك لملاحظتك هذه، وأما الولاء ومعناه، فإني على أتم علم بحقيقته.
سقراط :
نامعلوم صفحہ