مسلطون نحن بعض على بعض، نعم إنه لم يحدث لي كالذي حدث لصاحبي، لكن حدثت له أشباه، هي التي أخذت صورها تتقاطر مع خواطري، وأنا أقطع شرفة منزلي ماشيا من طرفها إلى طرفها، وأمسك لنفسي حساب العدد حتى تبلغ لي وحدات المجيء والذهاب مائتين وخمسين وحدة، فتكتمل الدقائق الستون. ومع انشغالي بالعد، تدفقت خواطري تترى، لتستخرج لي من المخزون صورا للسحب الدكناء كيف جاهدت أن تحجب الضياء، لكن النصر كان آخر الأمر محتوما للضياء.
ولعل الفرصة هنا سانحة لأضع بين يدي القارئ في إيجاز: لماذا أكتب؟ ولمن أكتب؟ وكيف أكتب؟ أما لماذا أكتب؟ فلأن عندي ما أقوله، وما كان ليستريح لي جنب على مضجع إذا لم أقله، وخلاصته أن ننظر إلى ماضينا بمنظار حاضرنا، وليس العكس، فهنالك كثيرون بيننا يروق لهم أن يزنوا حياتنا في يومنا هذا بموازين الماضي، وهو موقف يرفضه منطق التاريخ. إن أمامنا حضارتين، ولا مناص لنا من قبولهما معا، فحضارة آبائنا نحن من جهة، وحضارة هذا العصر من جهة أخرى، لكن هاتين الحضارتين على خلاف هو أوسع ما يكون الخلاف بين موقفين: إحداهما تدور أساسا حول أخلاقيات السلوك الذي يرضى عنه الله سبحانه وتعالى، وبالتالي فهو السلوك الذي يرضى عنه الناس، وأما الحضارة الأخرى فتدور أساسا حول العلوم وما يترتب عليها من ضروب العمل. الحضارة الأولى مدارها «الكلمة»، والحضارة الثانية مدارها «الآلة»، الأولى تنتج بشرا أسوياء، والثانية تنتج مصانع وصواريخ تغزو الفضاء. وعلينا أن نوفق بين الحضارتين لنعيشهما معا، وهو هدف لا يستهدفه الغرب؛ لأنه لا يملك بين يديه إلا حضارة واحدة هي الحضارة التي صنعها هو لهذا العصر، وأخذنا عنه ما استطعنا أخذه منها، على أننا إذا أردنا الوصول إلى الصيغة الحضارية الجديدة التي تلائمنا في موقفنا، كان لا بد من تغيير في المعايير التي ألفناها، وفي سبيل استحداث هذا التغيير أكتب ما أكتبه.
وللكتابة عند الكاتبين نوعان أساسيان: فمنهم من يكتب ما يريد جمهور القراء أن يقرءوه، ومنهم من يكتب ما ينبغي للقراء أن يعرفوه. الطائفة الأولى تسترضي زبائنها، والطائفة الثانية ترشد وتهدي، حتى وإن أثارت الغضب في النفوس. النوع الأول يمسك بمرآة لتنعكس على سطحها صورة الناس كما هم، والنوع الثاني يمسك بمصباح لينير الطريق أمام السائرين؛ لأنه - على الأغلب - طريق جديد لم يألفوه. ولقد اخترت لنفسي أن أكون من الصنف الثاني، مع تقديري لرجال الصنف الأول، وما كان لي إلا أن أختار الصنف الثاني من الكتابة؛ لأن عندي الجديد الذي أقوله، سعيا به نحو حياة جديدة، وأما كتاب المرآة - على أهميتهم - فليس في حوزتهم جديد، وكل فضلهم هو في أنهم يشاهدون الواقع كما يقع ليصفوه، لا ليغيروه. إنني في كتابتي لا أشبه صاحب دكان الخردوات، يحاول أن يجمع في دكانه ما يتوقع أن يطلبه أصحاب الحاجات، ولكنني أقرب شبها بالطبيب الذي يصف طريقة العلاج وطريق الشفاء.
وأما عن السؤال الثاني: لمن أكتب؟ فليس لي حق اختيار قارئ دون قارئ، فأنا أكتب ما أكتبه لمن يطيب له أن يقرأ، لكنني لا أستهدف أن أسري عن الناس همومهم، بل ربما زدتهم هموما على همومهم، ولا أتملق أحدا، فإذا رأيت الشعب الذي أنا واحد منه، بحاجة إلى تغيير مساره، أعلنت ذلك تأدية لأمانة الفكر. وأما أن أكون فيما أعرضه مخطئا أو مصيبا، فذلك ما لا حيلة لي فيه، ما دمت أضع نفسي وفكري على الورق صادقا ومخلصا. وإنني لأعلم أن أولئك الذين اعتادوا القراءة وهم على فراش النوم استجلابا للنعاس إذا استعصى عليهم، لن يلبثوا - إذا ما بدءوا قراءة مقالي - أن يتركوه إلى سواه؛ لأنهم سيجدونه موقظا ومؤرقا وهم ينشدون النعاس. إنني لا أسكب على الورق دردشة تتناثر كلماتها كما تتناثر رمال الشاطئ بين أيدي صغار يلهون في إجازة الصيف، بل أفترض في قارئي جدية المأخذ، وشعورا بالتبعة الملقاة علينا جميعا، وهي تبعة أن نغير حياتنا نحو ما هو أفضل وأعلم وأقوى.
على أن الكتابة - بغير شك - تتفاوت مستوياتها ارتفاعا وانخفاضا، وإنه لمن الخير أن تتفاوت على هذا النحو أقلام الكاتبين؛ لأن القراء الذين نتجه إليهم بالحديث متفاوتون، كما تتفاوت الفرق الدراسية في معاهد التعليم من أدناها إلى أعلاها، فلكل فرقة منها ما يلائمها مادة وأسلوبا، وهكذا أتصور البناء الثقافي في صورة الهرم، تزداد طبقاته اتساعا كلما نزلنا من القمة إلى الأساس، وتصدق هذه الصورة الهرمية على القارئين صدقها على الكاتبين أيضا، فقد يكتب الكاتب للقلة ذات المستوى الأرفع؛ لأن هذه القلة نفسها هي التي ستكتب لمن هم دونها. ولست ممن يضحك على عباد الله مخادعا، قائلا لمن ليس يعلم أنك العبقري الذي هو أعلم العلماء. إن في أبناء الشعب من يعرف أمرا لا يعرفه آخرون، وعلى من يعرف أن ينقل معرفته إلى سواه إذا كانت مما ينفع ذلك السوي.
وبقي سؤالنا الأخير: كيف أكتب؟ إنني لم أكتب، ولن أكتب فقط حرفا ما بقيت بين الأحياء، إلا إذا كنت مؤمنا بالمعنى الذي يدل عليه ذلك الحرف ساعة كتابته، وإذا ألقيت نظرة شاملة، إلى ما كتبته طوال فترة زادت على نصف قرن كامل، رأيت خطا فكريا مطردا هادفا نحو غاية مقصودة، هي فقد قيم قائمة في حياتنا، لو ظللنا نسلك على هداها، لتعذر علينا قبول حضارة عصرنا قبولا يجعل تلك الحضارة ملكا لنا، ونستطيع أن ندمجها فيما بين أيدينا من إرث أسلافنا، لتتكون لنا بهذا الدمج رؤية جديدة وحياة جديدة.
ولقد كانت لي طريقتي الخاصة في صياغة ما أكتبه، إذا كان ما أكتبه مقالا يراد به أن يحمل فكرة تضم إلى سائر الأفكار التي أعرضها على فترات متقاربة حينا، متباعدة حينا، كما تضم خيوط اللحمة إلى خيوط السدى لتنسج منها قماشة واحدة. وأعني بتلك الطريقة الخاصة أسلوبا في تحميل الفكرة على شكل مختار يتلاءم مع طبيعة الفكرة المبثوثة فيه، ومن شأن ذلك - كما هي الحال في جميع الصور الأدبية على اختلافها - أن تعرض الفكرة على قارئها بطريقة غير مباشرة، إذ يجد القارئ نفسه أمام راوية يروي له حلما، أو يزعم أنه عثر على مخطوط قديم ، أو يتكئ على أسطورة من أساطير الأقدمين، أو يجري حوارا تخيل له أشخاصا يناسبون موضوع الحوار، وهكذا وهكذا. على أن هنالك عددا كبيرا من المقالات اضطررت فيه إلى عرض الفكرة عرضا علميا بصورة مباشرة تلتزم تسلسل القضايا في تتابع منطقي، وذلك حين أرى أن الضرورة تقتضي اللجوء إلى إقامة الحجة بالبراهين العقلية الواضحة الصريحة.
ولماذا لجأت - حين لجأت - إلى طريقة الأدب في تضمين الأفكار أشكالا أختارها لها، مما يحتاج في حالات كثيرة إلى استخدام الرمز الذي من خلاله أعرض فكرتي؟ فعلت ذلك أولا لأن في طبيعتي ما يميل بي إلى التصدير الأدبي للأفكار، وثانيا لأنني أعتقد أن البناءات الفنية أدوم بقاء على الزمن، وأرسخ أثرا في ذهن المتلقي، مما لو عرضت الأفكار على الطريقة التي تعرض بها المواد العلمية الخالصة، لكن الثمن المدفوع في سبيل أن أكسو الأفكار بأشكال أدبية، قد كان باهظا فيما يبدو، إذ تزداد درجة الاحتمال بأن تصادف الكتابة قراء لم يخلقهم الله للقراءة الجادة المتأنية المتفهمة، بل خلقهم لينظروا إلى المكتوب بأطراف أعينهم، ثم يتثاءبون، ويلقون بالكتاب أو الصحيفة ليأخذهم النعاس إلى مدينة الأحلام، فماذا يقول قراء كهؤلاء إذا استيقظوا في الصباح، وسئلوا: ماذا قرأتم بالأمس؟
كانت تلك هي خواطري، التي انسابت متدفقة يشد بعضها بعضا، عندما كنت أقضي الساعة الرياضية مشيا في شرفة منزلي، في وقت مبكر من الصباح، والشمس خلف حجاب السحب تجاهد لتنفذ إلى الأرض بنورها. وكنت مع سيل الخواطر حريصا على ألا يفلت مني عدد الوحدات التي أقطع بها الشرفة رائحا غاديا، واكتملت الساعة بدقائقها الستين، وقبل دخولي إلى حيث تحضرني الجدران، نظرت إلى الشمس، فإذا هي موشكة على كسح السحب الحاجبة، فقلت: ألا إن النصر محتوم آخر الأمر للضياء.
حوار مع وراق
نامعلوم صفحہ