كفاية الإثبات.
وعن هذه الكفايات الثلاث تنتج ثلاث صور من المعرفة. فعن كفاية الاعتقاد ينتج الدين، وعن كفاية التأمل تنتج الفلسفة، وعن كفاية الإثبات ينتج العلم؛ إذن فالدين والفلسفة والعلم ثلاثة اصطلاحات وضعت لتدل على ثلاث صور معينة من صور المعرفة الإنسانية، بحيث يفصل بينها في الاعتبار العقلي حدود موضوعة، ولا تجتمع إلا في حيز واحد؛ إذ ترجع برمتها إلى أنها نتاج للعقل الإنساني.
وما نعني بالعقل الإنساني إلا ذلك الشيء الغامض المبهم، الذي فيه من الفطرة ومن الكسب مزيج ينتج تكوينا نسميه العقل. وما دام العقل - كما سنرى بعد - أحد الأشياء التي نسلم بها ولو عجز العلم عن إثبات وجودها بأساليبه الموضوعة، اضطررنا إلى القول بأن تعريف العقل وحده مستعص إلى حد بعيد. ولكن يكفي أن نعرف من العقل أنه المصدر المكون من فطرة وكسب، والذي ينتج عنه مجموعة المعرفة الإنسانية. (1) كفاية الاعتقاد ونشوء الدين
في الحياة الإنسانية ظاهرة من الجائز أن تكون قد سبقت بالوجود أول مدارج الاجتماع. تلك ظاهرة الاعتقاد، فكما أن الإنسان كائن اجتماعي بالطبع، فهو كذلك كائن معتقد بالطبع؛ أي إنه ذو عقيدة في صحة شيء وبطلان آخر.
فالحاجة - حاجة الإنسان إلى الاحتفاظ بكيانه وحياته - جرته إلى الموازنة بين الحالات المحيطة به، مقودا بفطرته مسوقا بمقتضى غريزته إلى الاعتقاد بصحة عدد من الحقائق المرجحة، التي تحف به ظاهراتها وتحوطه نتائجها.
عاش الإنسان الهمجي عيشة الفطري الساذج في جوف الطبيعة، يتلمس أوجه الحقيقة ليزيح عن عينيه وشاح الجهل والعماية التي جرته إلى عبادة الأوثان والعناصر، ومضى يتأمل نواحي الطبيعة ليقع على قبس من نور الحق يجلو به ظلمة الشك القاتل، الذي يحوط بماضيه ويحف بمستقبله وينهك قواه في حاضره، فلم يجد سوى الوهم والتخيل يحبوهما الخوف من جهل بالمستقبل، فراح يضرب مع أوهامه في فلوات الفكر القصي، يأخذ بيده الخيال وتنجده كلما زلت قدمه في مزالق الوهم، تصورات ما نزل بها من سلطان.
تلك حالات تطمئن إليها النفس، ويسكن إليها العقل الفطري، ما دامت آتية من ناحية الفكر منتهية بالإنسان إلى صورة من صور الاعتقاد بصحة شيء ما، مهما كان ذلك الشيء في ذاته باطلا.
فالإنسان إذن كائن معتقد بطبعه، وما كان للإنسان أن يتبدل بمعتقده معتقدا آخر، قبل أن تصح عنده مقدمات تسوق إليه، وما كان له أن يثبت على معتقدين متناقضين أو متضادين تلقاء شيء بذاته، في زمان بذاته؛ ذلك لأن للعقل الإنساني طبيعة لا تسع إلا اعتقادا في شيء بعينه في زمان بعينه.
من هنا نقول بأن الاعتقاد الفطري في الإنسان تكأة الدين، كما أن الخوف والجهل منشؤه. قال المؤرخ ليكي في كتابه: «تاريخ حرية الفكر في أوروبا» ص16 جزء أول طبعة 1913 ما يلي:
نجد في حياة الإنسان الفطرية الأولى أن الاعتقاد بالسحر كان عاما، بل غالبا ما ظهر ذلك الاعتقاد مصحوبا بضروب شتى من القسوة الغاشمة. والسبب في ذلك ظاهر؛ فإن الفزع كان في كل الحالات الباعث الأول على تصوير الأديان؛ لأن الظاهرات التي كانت تبلغ من عقول المتوحشين أبعد مبلغ من التأثير، ليست هي الظاهرات التي تدخل في حيز الأشياء الطبيعية من الأسباب الموصولة بالمسببات التي تقع تحت التجربة، أو تلك التي تنتج أكثر مظاهر الطبيعة عودا بالنفع والخير على الإنسان، بل هي الظاهرات المهدمة القاسية التي ترى على ظاهرها؛ كأنها خارجة عن النسق العام.
نامعلوم صفحہ