لم أعد أستطيع التخلص من هذه الفكرة العجيبة التي سيطرت علي، وهي أنني أنا والأحدب ومعنا صديقي إبراهيم الذي لقيته في الإسكندرية لا بد أن يكون بيننا رباط وثيق، يجعل منا ثلاثة جسوم لنفس واحدة، نعم، قد يكون هذا سطحا مني في التصور، ولكن ما أكثر ما تقرأ عن شخوص تتعدد مع روح واحد، حتى لتجد من المذاهب والعقائد ما يجعل الإنسانية كلها؛ بجميع ماضيها وحاضرها وسائر ما سوف يولد من أفرادها إلى أبد الآبدين، شعابا لنفس واحدة، لكنني لا أريد أن أغلو في القول إلى ذلك الحد البعيد، ويكفيني ثلاثة أشخاص، إبراهيم والأحدب وأنا، لأزعم لهم نفسا واحدة تشعبت في اتجاهات ثلاثة.
أقول: إني لم أعد أستطيع التخلص من هذه الفكرة، حتى ولو كانت فكرة باطلة من حيث الواقع الحسي؛ فهي ما تزال صالحة لتصورات الخيال؛ لأن ثلاثتنا - إذا جمع بعضنا إلى بعض - صنعوا إنسانا متكامل الجوانب، وماذا يراد لمثل هذا الإنسان المتكامل من عناصر؟ أليس الذي يراد له هو:
أولا:
عمل يرتزق منه، ويجري فيه على تجانس مع أبناء المجتمع الذي يعيش فيه.
وثانيا:
خيال يجمح به آنا بعد آن ليفر من قيود المكان والزمان كلما ضاق بهذه القيود.
وثالثا:
طيران بالعقل إلى أهداف بعيدة تريد التحقيق في دنيا الواقع ولو بعد حين، فلا هو يخضع للأمر الذي تفرضه عليه ضرورات العيش، ولا هو يطير بأجنحة العاطفة التي تشبع نفسها ولكنها لا تغير من الواقع شيئا.
فإذا كانت هذه هي العناصر الأساسية المطلوبة ليتكامل الإنسان؛ فهي هي نفسها العناصر التي تتجسد فرادى في شخصي، وفي شخص رياض عطا (الأحدب) وفي شخص صديقي إبراهيم؛ فأنا الذي حملت على كتفي أعباء الأمر الواقع وما يقتضيه، ورياض هو الذي ترك قياده لعاطفته، وإبراهيم هو الذي أخذ يخطط بالعقل الصرف لمستقبل علمي يرفعه عن درب ضربته الأقدام.
فها نحن أولاء نقف جنبا إلى جنب على عتبة الحياة العملية، وكان ذلك سنة 1930، لكن سرعان ما تفرقت بنا السبل، ولقد كان بيننا من الأصول المشتركة ما يجعل في أشخاصنا شيئا من التداخل؛ بمعنى أنني وإن كتب علي أن أسير على الدرب الذي ضربته لي أقدام السائرين الآخرين من عباد الله، فلم يكن ذلك ليحرمني من ساعات لشطح العاطفة، وساعات أخرى للأمل في أهداف بعيدة وجديدة، وكذلك الأحدب، فإن يكن قدره أن تشتعل به العواطف وتحتدم الغرائز؛ فهو بالطبع لم يخل من لحظات يستسلم فيها للأمر الواقع، أو لحظات يخطط فيها لنفسه بالعقل كيف يخطو إلى أمام ثم نقول القول نفسه عن زميلنا الثالث إبراهيم؛ فهو إذا كان قد غلب عليه المستقبل بطموحه حتى غض النظر عن الحياة كما تمر بموكبها أمام عينيه، فلم يكن هذا الانصراف إلى بناء المستقبل ليلهيه أحيانا عن الاستماع إلى صوت اللحظة الراهنة، أو الميل أحيانا إلى جموح العاطفة أو نداء الغريزة.
نامعلوم صفحہ