قال: هلا حدثتني بأي شيء تعرفه عن أفراد أسرته؟
قال: وما سر اهتمامك به؟
قلت: لقد عرض لي في طريق الحياة لفترة وجيزة، أثار فيها استطلاعي، ولم أعلم عنه بما يشبع رغبتي، ولو لم يكن على شيء من الغرابة اللافتة للأنظار، لما عنيت به، ولكان واحدا من ألوف الناس الذين يجيئون في طريق الحياة ويذهبون.
قال: صدقت، إنه على كثير من الغرابة، ولكني - على كل حال - لا أعلم عنه إلا أقل من القليل؛ بسبب انطوائيته الشديدة في معظم الأحيان، انطوائية لا تشجع أحدا على الاقتحام، ومع ذلك فصلة القربى البعيدة بيني وبينه قد أتاحت لي أن أعلم بأن أباه كان ملحقا بحكومة السودان، ولقد اصطحب ابنه هذا إلى هناك وهو غلام، ومضت أعوام لا أعرف عددها، ثم عادت الأسرة كلها إلى القاهرة، وكانت عند العودة مؤلفة من الوالدين وثلاثة أبناء وبنتين، وهذا الأحدب هو أكبر الأبناء.
قلت : ومن هما أخواه؟
قال: أحدهما قريب من سنه، وهو يزامله مزاملة لم أشهد مثلها في أخوين؛ فلقد كانا على طريق في الدراسة واحد، وتخرجا معا، واشتغل كلاهما بالتدريس أول الأمر، وأظن شقيقه هذا الآن مديرا للتعليم في منطقة القناة؛ وأما أخوهما الأصغر فأظنه طبيبا في إحدى عواصم الصعيد.
وتركنا سيرة الأحدب بعد هذه العجالة المفيدة، واستأذن صديقي بعد دقائق قليلة، وتركني على عزيمة بأن أقصد إلى شقيقه مدير التعليم، لعله أن يكون طريق الوصول إلى ما كنت أبتغي الوصول إليه من تفصيلات تكمل سيرة حياته، ويكون لها عندي دلالتها في تكوينه النفسي.
ولن أطيل في ذكر التفصيلات التي اعترضت طريقي في البحث عن شقيق الأحدب، وهو الذي قيل لي عنه إنه والأحدب بمثابة التوءمين بالروح؛ فهما وإن يكن بينهما في العمر سنتان، والأحدب يكبر بها شقيقه ذاك، إلا أنهما بدءا الدراسة معا وتلازما في كل مراحل الحياة بعد ذلك، حتى لقد تشابها في الفكر وتشاركا في مجموعة الأصدقاء، وتزاملا في كل ما قد عرض لهما أثناء الطريق، ولا يكاد أحدهما يكن سرا لا يطلع عليه توءم روحه، فهما في الحق - كما قال لي القائل عنهما - قد أوشكا أن يكونا شخصا واحدا في جسدين.
وصلت إلى الشقيق خلال إجازة قصيرة كان يقضيها في القاهرة، ولم أرد أن ألف معه وأدور، بل كاشفته بكل ما جئته من أجله؛ وهو أني رأيت في أخيه الأحدب ما أثار اهتمامي وأردت أن أتعقب تاريخه، لا حبا مني في استطلاع غوامض الناس لمجرد الاستطلاع، بل لأني أردت أن أتخذ منه موضوعا للتحليل المفيد؛ فهو بغير شك يمثل نموذجا صالحا للدراسة التي نستبين بها مدى ما تفعله عوامل النشأة في تكوين النفوس، ولو كان إنسانا على الصورة المألوفة للأناسي، لما لفت الأنظار، لكنه هو حبه للعزلة والانطواء على نفسه وخوفه من مخالطة الناس؛ دون أن يكون ذلك صادرا عن شك في نواياهم بالنسبة إليه، وإنما هي عزلة وانطواء وخوف قد أصبحت جزءا من كيانه، لا يطمئن إلا بها، ولا يكتمل له وجوده إلا إذا تحققت له، فما الذي ينتهي بإنسان إلى مثل هذا؟ ذلك هو السؤال.
استمع إلي شقيقه برحابة صدر، ثم سألني: أين التقيت به، وكيف؟ فقصصت عليه ما كان، وذكرت له شيئا من مذكراته التي أعطاني إياها عن حياته الأولى، لكنها مذكرات تنتهي عند أول الشباب.
نامعلوم صفحہ