الفصل الثاني
حصان من الحلوى
أخذت أحفر تحت هذه النبتة الملتوية لأتعقبها إلى جذورها العميقة الدفينة في تربة الأرض، لعلي بذلك أصل الخيوط بين الأول والآخر، بين البداية والنهاية، بين البذرة والثمرة، بين الجرثومة والمرض، بين ظروف النشأة الأولى وهذا القتب فوق كتفي صديقنا الأحدب المسكين.
فربطت أواصر الصداقة بيني وبينه، أزوره كلما واتتني الظروف، ويأنس لزيارتي ولصحبتي، ولم تكن الصحبة إلا إلى ذلك الملاذ الهادئ، خارج المدينة بعد الغروب، وتركت الحديث بيني وبينه يجري مجراه الطبيعي ليخرج لي بعض المعالم التي كنت أستند إليها في متابعة بحثي بعيدا عنه: فأين كان مولده، وأين نشأ وتربى، ومن هما والداه، ومن هم الذين أحاطوا به في مراحل حياته؟ وكنت خلال ذلك كله أتلمس اللحظات التي ظننتها تكون من حياته معالمها.
فليست اللحظات في حياة الإنسان كلها سواء من حيث فعلها في توجيه الأحداث؛ فمنها ما قد يمضي ولا أثر له، ومنها ما يكون له من بعد الأثر وعمقه ما يظل يؤثر في مجرى الحياة إلى ختامها، وإن النظر إلى حياة الإنسان بمجموعة أحداثها لكالنظر إلى مشهد طبيعي أو إلى صورة فنية؛ فالعين لا تبدأ النظر من حافة الإطار اليمنى ثم تسير في خط أفقي مستقيم حتى تنتهي إلى حافة الإطار اليسرى، بل إنها لتقع أولا على نقطة بارزة هنا أو هناك، كشجرة على يمين الصورة أو جبل على يسارها، أو قمر ساطع في وسطها، ثم من هذه النقطة ينساب البصر في مختلف الاتجاهات؛ فكأنما هذه النقطة البارزة ينبوع تفجرت منه بقية الأجزاء، وهكذا يكون النظر إلى حياة إنسان بمجموعة أحداثها، فعندئذ أيضا يتجه الانتباه إلى لحظات بارزات. كانت حاسمة في توجيهها، ومن تلك اللحظات ينساب البصر إلى سهول تلك الحياة ووديانها.
ولم تكن لحظة الميلاد - بالنسبة لصاحبنا الأحدب - واحدة من لحظاته الحواسم، فكأنما هي جزء من حياة غيره أكثر منها جزءا من حياته، إنه يحددها بشهادة الميلاد، مفترضا الصدق فيمن كتبها ومن أملاها؛ لأنه لا يملك في دخيلة نفسه دليلا على صدقها أو على كذبها، ولو احتكم إلى حياته الباطنية لما وجد فرقا بين أن يكون قد عاش على ظهر الأرض خمسين عاما أو خمسة آلاف عام، فكل الشواهد التي يستدل بها على مدى ما قد عاشه من سنين، شواهد خارجية ليس فيها شاهد باطني واحد؛ إن ذاكرته لا تقفل راجعة إلى ساعة ميلاده.
وإذن فالأمر كله مرهون بشهادة غيره، فهكذا يقول الوالدان، وهكذا تثبت دفاتر الحكومة. •••
إن ساعة الميلاد الحقيقية هي أول ما تستطيع الذاكرة أن ترتد إليه، ولقد جعلت «الأحدب» يكد الذاكرة كدا راجعا القهقرى، لعله يظفر بأولى لحظات خبرته الحية، فوقفت به عند ليلة مظلمة شديدة الظلمة، حين عاد به أبوه من القاهرة إلى بلده في الريف، وهو بلد يقع في شمالي الدلتا بالقرب من البحر، وكان المسافر إليه يركب القطار إلى أقرب محطة في البر الغربي من فرع دمياط، ثم يستقل مركبا يعبر به النيل إلى ضفته الشرقية منحرفا بعض الشيء إلى جنوب، حتى إذا ما رسا أمام القرية المطلة على النيل صعد جسرا، وفي صعود صديقنا الأحدب ذلك الجسر مع أبيه في تلك الساعة المعتمة من جوف الليل. كان الطفل - وهو عندئذ في الرابعة من عمره - يحمل ربطة فيها حصان من حلوى المولد النبوي، اشتراه له أبوه أثناء الطريق، صعد الصبي الجسر مع أبيه، حلواه في يسراه وأبوه يجذبه من يمناه، وكلاهما يتعثر في الصعود وتنغرس قدماه في الحصى والتراب، فقال له أبوه - وهما في طريق الصعود يتعثران ويلهثان - كأنما أراد بقوله أن يخفف من حدة الصمت ومن شدة المجهود: «أريد أن أراك رجلا عظيما»، ولم يكد ينطق بحرف الميم في آخر عبارته حتى سقط الصبي على وجهه، فانفلتت يده اليمنى من قبضة أبيه، وانفلتت ربطة الحلوى من يده اليسرى وتهشم ما فيها، فأنهضه أبوه والتقط له الحلوى المهشمة التي كان غلافها الورقي قد تمزق من بعض جوانبه، فتسرب شيء من التراب والحصى إلى داخل، وتسرب شيء من الحلوى إلى خارج.
قص علي «الأحدب» هذه القصة، وأردف يقول: «لست أدري ما الذي دار في رأسي عندئذ، لكنني حتى هذه الساعة لا أقرن الكثير الذي رجوته لنفسي أيام الصبا، بالقليل الذي حققته منه في الواقع، إلا وأذكر على الفور تلك الحادثة، ترى هل كان هذا هو الخاطر الذي طرأ لي عندئذ - ولو بصورة مبهمة غامضة - أعني هذه المفارقة المؤسفة بين الأمل الذي عبر عنه والدي، وهو رغبته في أن يراني رجلا عظيما، والخيبة العاجلة التي جاءت كالإجابة الهازئة من قدر ساخر، أقول: ترى هل كانت هذه المفارقة الحادة بين الرجاء المأمول والخيبة الواقعة هي البذرة الأولى التي منها انبثقت على مدى حياتي هذه الرغبة الملحة في الوصول ثم هذا الشعور القوي بأنني لم أصل؟»
قلت للأحدب: ليست هذه حالة خاصة بك أنت وحدك، برغم هذه القصة التي قصصتها، فمن خصائص الطبيعة الإنسانية كلها هذا التطلع الذي يتشوف وراء الكائن الفعلي المحصل إلى ما هو غائب مجهول مرتقب، نعم إن من خصائص الطبيعة الإنسانية كلها هذا القفز من المتحقق بالفعل إلى ما يجب أن يتحقق، هذا القفز من الواقع إلى الممكن، من المكسوب إلى المأمول؛ فهذا التطلع من الإنسان، تطلعا يجاوز به دائما حدود الواقع إلى عالم الممكن، هو الذي يدفع به من حالة النقص إلى حالة الكمال.
نامعلوم صفحہ