يا أيها الندل اللئيم البادي
اصبر لضرب الفتى المقداد
سوف أخلبك على الوادي
تظل مطروحا على الصعاد (قال البكري): فلما تقربا حمل كل واحد منهما على صاحبه وتجاولا طويلا واعتركا مليا، وثار الغبار وأظلم النهار وغابا عن الأبصار، وهم في كر وفر، وطعن وضرب، وبعد وقرب، وهتك وفتك، وازدحام والتحام، ثم تطاعنا بالرمحين حتى تحطمت، وتضاربا بالسيفين حتى تثلمت، وقد كلت منهما الساعدان، وخدرت منهما المنكبان، وقد ظهر من عدوه العجز.
فلما علم أنه لا طاقة له على مقاومة المقداد، قال له: لأي شيء تقاتلني وأقاتلك ولم تكن بيني وبينك عداوة وطلب ثأر؟ فقال المقداد: أقاتلك على تعديك على قيس وابنة عمه الخنساء ظلما وعدوانا، أوما علمت أن البغي يصرع صاحبه، ولو أنصفت لرأيت العطب وشاهدت العجب! فقال الولهان: إن كان تريد أن تنشر على جناح رحمتك فافعل ثلاثة أشياء، فقال المقداد: وما هي؟ قال: اختر واحدة من ثلاث؛ إما إطلاق قيس لأجلك وأنت تعرف السيد والشجاع إذا رأى ذلك، أو تأخذ جواد قيس ولأمة حربه أو تمضي بالسلامة.
قال المقداد: ما لي بذلك حاجة، بل جل غايتي هو قطع رأسك وتخميد أنفاسك، فعند ذلك اغتاظ الولهان غيظا شديدا، وحمل على المقداد حملة منكرة، فحمل المقداد أيضا عليه حملة أنكر وأدهى، فطعنه في صدره طعنة شديدة أخرج السيف من ظهره فجندله صريعا يخور بدمه وينهش الأرض بفمه.
ثم إن المقداد تقدم إلى قيس وحل أكتافه وأخرج دهنا فدهنه وخلص الخنساء من أسرها، فقال له قيس: من أنت أيها الفارس الذي قد من الله علينا بك في مثل هذا المكان الخالي من السكان؟
فقال له: أنا المقداد بن الأسود الكندي. فقال قيس: والله العظيم إن معرفتنا بك أحب إلينا من الدنيا وما فيها، ولولا قدومك إلينا ما خلصنا أحد من يد هذا الكافر الظالم، ولكن الله يجزيك خيرا عنا، فبالله عليك إلا أخبرتنا سبب خروجك من أهلك، فحدثهم المقداد بحديثه من أوله إلى آخره، والشرط الذي شرطه عليه عمه، فقال قيس: أعانك الله على ما ذكرت من المهر. ثم إنهم جلسوا يتنادمون على تلك العين، هذا ما كان من حديث قيس والمقداد.
وأما ما كان من حديث عبد الولهان، فإنه لما نظر إلى سيده قتيلا انهزم سار إلى حي بني بارق وهو ينادي بالويل والثبور وعظائم الأمور، فلما سمعوا كلامه تنادت الأبطال، وثار القتال، وركبوا الخيول العتاق والنجب السباق، وقالوا: يا جاحد، من الذي دعاك ومن بشره قد رماك؟ قال: اعلموا أن الولهان قد قتل! فلما سمعوا كلامه قالوا له: ويلك، من قتله؟ قال لهم: قتله رجل حجازي. فعند ذلك غضبوا غضبا شديدا واجتمعوا في ألف فارس ليوث عوابس، وقد لبسوا الدروع الداوية والخوذ المجلية والسيوف الهندية، واعتقلوا الرماح الخطية ثم ركبوا الخيول العربية، يقدمهم أخو الولهان، وكانوا ثلاثة إخوة؛ الكبير اسمه الهمام، والصغير اسمه المقدام، والأوسط اسمه القمقام، وكانت العرب تسمي هماما الطامة الكبرى، وكان يصيد الأسود في غابها، ويجندل الأبطال في وقعاتها. قال البكري: ولم يزالوا سائرين في طلب قيس والمقداد حتى قاربوهما، وبينما كان المقداد جالسا مع قيس يتحدثان وإذا بغبرة قد طلعت عليهما ثم انكشفت الغبرة فإن من تحتها ألف فارس ليوثا عوابس. قال: ولما تأملهم المقداد فنهض قائما على قدميه وقال: يا قيس من أي قبيلة يكون هؤلاء القوم؟ فقال قيس: هؤلاء بنو بارق قوم الولهان. فقال المقداد: طب نفسا وقر عينا؛ فلو كان بنو بارق بأجمعهم وعددهم وعتادهم كفيتك شرهم.
قال الراوي: فما كان غير ساعة إلا وقد أحاطوا بهم من كل جانب ومكان، فعند ذلك تقدم أخو الولهان وأنشد يقول:
نامعلوم صفحہ