أحاول الكتابة عن تولستوي، وإن لم يكن تحت يدي ولا مؤلف واحد من مؤلفاته الكثيرة، وإني على ذلك لا أجدني برثائه خليقا، إلا كما يرثي امرؤ هذه الأرض الواسعة قد خلت من أحد مصابيحها ذوات الضوء الساطع، أو كما يشفق أحد بني آدم من فقد هاد من هداة الفضيلة، وواعظ من أكبر الواعظين.
أشعر بأن مصيبة العالم في هذا الرجل ليست كالمصائب التي تفجع لها القلوب، وتألم لها الأنفس بحزن حار، يجري الدموع ويسلم اللسان لهذيان من فرط الجزع، لا أشعر بذلك، بل أشعر بأن المصيبة بفقد هذا الحكيم مصيبة كبيرة، واقعة في النفوس وقعا فاترا، لا تدمع عينا ولا تخفق قلبا، ولا تحرك ألما من آلام الأحزان، كأنما هي تقع على العقول لا على القلوب.
فأولى بوفاة تولستوي أن تشبه بكسوف الشمس أو بخسوف القمر، أو بأية ظاهرة من تلك الظواهر الطبيعية، التي أكثر ما تهتم لها عقولنا لتدبرها، وتعرف آثارها في الوجود.
لم يكن هذا الرجل روسيا فقط، بل كان إنسانا قبل كل شيء، يحب أمته، ويحب أعداء أمته، يحب السلام على الدوام، يحب أيام السلام وأيام الحرب على السواء، يكره الحرب سواء كانت الغلبة فيها لقومه أو على قومه!
ولم يكن كذلك مسيحيا محدود المشاعر بحدود النصوص أو التقاليد، بل كان مسيحيا لا حد لتسامحه، يسع صدره الرحيب آراء موافقيه في الدين ومخالفيه، يرى في الدين أنه طهر للنفس والمشاعر، وحب القريب والغريب، ويرى في العمل به السعادة في هذه الدار الدنيا والآخرة.
فإذا كان تولستوي رجل روسيا وحدها، بل رجل العالم والسلام، وإذا كان تولستوي ليس مسيحيا محدودا بمذهب معين متعصبا له، بل متسامحا يقبل دين الفضيلة حيثما وجد من غير تحرج بحدود مذهب غير مذهبه الواسع، فأخلق بمصيبة تولستوي أن تكون كما قدمنا خسارة عالمية، لا خسارة روسية، أو خسارة مسيحية!
إن الله يبعث الجيل بعد الجيل على هذه الكرة رجالا من الناس يؤتيهم طرفا من حكمته وقبسا من نور أسراره ينصرون الحق على الباطل، ويشعرون بنور هديه في الأزمة المظلمة والمكان القفر، يتبعون سنن الأنبياء في إرشاد الناس، ويقفون نفوسهم وملكاتهم على بلوغ ما يريدون من خير للإنسانية، فإذا مات أحدهم كان موته خسارة تتأثر لها الحقائق العلمية ومكارم الأخلاق، ولم يكن تولستوي إلا أحد هؤلاء، فمن بعده للفقراء والمساكين يقف لهم في وجه الظلم والبؤس والنفي والعقاب على غير جريرة، ومن للدين ينصره بشجاعة فائقة لا تقف أمامها انتقادات المنتقدين، ورمي الرامين له بالزندقة والخروج عن القصد، بل من للمساواة والمعاملة بالعدل ينصرها من تعدي الطبقات القوية عليها في كل مظاهرها السياسية والاجتماعة والاقتصادية، بل من يهدي الرجال إلى العمل الصالح، وقد مات الرجل؟!
اشتغل تولستوي بالفلسفة، فلم ير رأي النظريين بجملته، ولا رأي الماديين أو الوضعيين، كان عقله الواسع يأبى، دائما، وفي كل شيء، أن يتقيد بالقيود المذهبية التي يستحيل أن تخلو من التعسف.
اشتغل بالسياسة فكان يكره الاستبداد، وينفر منه، ويغلب إرادة الجماعة على إرادة الفرد، يقول بسلطة الأمة، ويعمل بنفسه وبأنصاره وتلاميذه (وهم أكثر من الكثير) على تحقيقها وقد تحققت في بلاده أو كاد يتم تحققها بالفعل.
اشتغل علما وعملا بالاقتصاد، فكان مذهبه اجتماعيا قريبا جدا من الاشتراكية أو كان هي بعينها، وهو وإن كان لم ينجح في تجربة، إلا أن ذلك ليدل كثيرا على عقله المرتب الذي ظهرت آثاره متجانسة في جميع الفروع المختلفة التي اشتغل بها.
نامعلوم صفحہ