يردد هذا الجمع الكبير هذين البيتين في آن واحد على نغمة ما أجملها، فما علمت غناء في مثل هذا الظرف أشجى نغمة ولا آخذ بالقلب من هذا الغناء الذي سمعته، يفعلون ذلك على بعد من المسجد تحية القدوم، ثم يترجلون فيدخلون للزيارة، وسألت عنهم، فقيل لي: إن الخليفة السنوسي حضر من مكة للزيارة في هذا الموسم، مولد سيدي حمزة، وليلة المعراج، فلا يحل بأرض قبيلة من قبائل الطرق إلا دعوه للاستراحة عندهم، ثم يتبعه من مريديه جماعة، فلا يصل المدينة إلا وهو في مثل هذا الجيش من العربان المسلحين من تلاميذ الطريقة السنوسية، يالله، ما أفعل الاعتقاد في القلوب، وما أقرب البدوي من السير وراء اعتقاده!
على هذا الحرم الشريف تخيم السكينة، فتزيده هيبة على هيبته، ووقارا على وقاره، ومع أنه غاص دائما بالناس من مختلفي الأجناس، لا تسمع فيه صوتا فيما بين أوقات الصلاة إلا تقريرات المدرسين في زوايا الحرم، وحفيف الحمائم تنتقل من الحصباء إلى ذرى الحرم لا يهولها كثرة الناس، فهي في غاية الأنس، لا تعرف كيف يهاج الطائر، ولا تتصور الوقوع في حبائل الصيادين، نواعم لا تعرف بؤس العيش، آمنة لا يأتيها فيما حرمه النبي خوف، فإنه حرم من دخله كان آمنا، فإذا جاء وقت الصلاة انقلب السكون ضجة، وهرع كل من في المدينة رجالا ونساء إلى الحرم؛ لشهود صلاة الجماعة.
وللنساء هناك مصلى خاص بهن لا يتعدينه إلا إذا كثر عنه عددهن، وضاق عن احتوائهن كما كان ذلك وقت صلاة العصر التي بعدها، احتفل في صحن الحرم بقراءة قصة المعراج، وقتئذ كان كثير من الناس في المسجد إلى جانب الرجال، على كره من أغوات الحرم على ما نظن، فإني رأيت بعضهم يحتفظ جدا بجعل النساء لا يتجاوزن حدود مصلاهن إلا للزيارة، ولما قرئت قصة المعراج قام بعض الأعراب الجالسين على الحصباء في صحن المسجد يحصب بعضهم بعضا وهو يقول: «حجينا حجينا» كأنه يشهد الناس أيضا على زيارته للرسول في هذا الموسم.
وللناس في المدينة عناية بحضور الدروس؛ فقد تجد في الحلقة، من غير الطلبة، كثيرا من المستمعين، أما نحن فقد كنا نغشى الوقت بعد الوقت درس الأستاذ الكبير الشيخ حمدان الونيسي مدرس الحديث والبيان بالحرم الشريف، ولمناسبة ذكر المدرسين يمكننا أن نصرح بأنهم يدرسون هناك التماسا للبركة، لا يطلبون على عملهم جزاء ولا شكورا.
غير أن من ألزم الأشياء تشجيع العلم في منبته، أي في الحرم المدني، وذلك قل أن يكون إلا بمكافأة أولئك المدرسين، لا ليزيد اجتهادهم في تعليم الناس شريعة محمد حول مقامه الكريم، ولكن لتستمر مجاورتهم؛ لأن المدرس مهما كثر اجتهاده إذا ضاق به العيش في المكان الذي يقطنه اضطر اضطرارا لهجرته، وليس ذلك من مصلحة العلم، حقيقة أنهم يؤتون بعض الرواتب سواء من الدولة أو من الوقف، ولكنها رواتب زهيدة جدا لا تفي بشيء من حاجات المدرس المنقطع للتدريس، بحثت في ذلك فتلقفت أطرافا من الروايات مرجعها جميعا إلى أن المزورين المطوفين وهم الذين يتصدرون لتعليم الناس كيف يزورون، وماذا يقولون وبماذا يدعون، هؤلاء وهم من غير العلماء بالدين ولا بالتاريخ، ولا بغيرهما، يأخذون هذه الوظائف بالوراثة، ومما بلغنا من غير سند، أنه إذا جاء الحرم رزق يخصص للعلماء، قال المطوفون: إنهم هم العلماء، فإذا كان للأشراف قالوا: إنهم هم الأشراف!
مصر والحرب التركية الإيطالية
وما كدنا نعود من المدينة المنورة - أبي وأنا - حتى كانت الحرب التركية الإيطالية قد نشبت في ليبيا، وأغارت إيطاليا على طرابلس، فظننت أن هذه فرصة لتحقيق ما كنت أدعو إليه من أن مصر يجب أن تكون للمصريين، وقد أخذت أنبه - على استحياء - إلى واجب مصر في هذه الحرب، وهو أن تكون على الحياد، وأن سيادة تركيا لا تجلب لمصر منفعة ولا تدفع عنها مضرة، ولا تستطيع أن تنقذها من الاحتلال البريطاني الذي لا يمكن الخلاص منه إلا بتضافرنا والاعتماد على أنفسنا.
وقد أغضب هذا الموقف بعض الناس، ولكني لم ألتفت إلى غضبهم، واتفق أن جاءني كتاب من تاجر بدمياط لا أعرفه، يقول فيه: إن الطليان احتجزوا له سفينة محملة بالأرز في عرض البحر؛ لأنها تحمل العلم التركي، وهو علم مصر، فذهبت إلى حسين رشدي باشا وزير الخارجية وقتئذ وأطلعته على الخطاب، وطلبت إليه التوسط للإفراج عن السفينة، فخابر ممثل إيطاليا في مصر، فأفرج الطليان عنها، وعادت السفينة إلى صاحبها.
الفصل التاسع
مع سعد زغلول والخديو عباس
نامعلوم صفحہ