ومن هذا يرى القارئ أن عدم صحة الفكر المصري في الإنتاج لم تأت من طبيعة له ولا من عرض ملازم له، بل أتت من إمكان الحكم على مقاصد إنجلترا من الاحتلال.
المسألة الثانية هي: الجامعة الإسلامية
إن فكرة الوحدة الإسلامية قد تجول أحيانا بخواطر بعض الناس الذين لا يزالون بعيدين عن الاشتغال بالسياسة والنظر في الأمور العامة بشيء من التدقيق، ولكن تلك الفكرة لم تخرج عن حيز الخواطر، تظهر وتختفي تبعا للحوادث، فكلما رأى المصريون اتفاق رجال السياسة الأوربية على شيء يضر بمصلحة مصر، أو يبعد ميعاد استقلالها أو يفيد استمرار الاحتلال إلى الأبد، قارنوا بين مصر وبين غيرها من ولايات البلقان التي استقلت، واستنتجوا من ذلك أن ذنب مصر أنها أمة إسلامية، وأن أوربا لا تساعد في الشرق إلا الأمم المسيحية، فتمنى بعضهم لو كان للمسلمين وحدة كما في أوربا هذه الوحدة التي يتخيلون وجودها، وأنها كانت الحامل لأوربا على التداخل في أمر ولايات البلقان وأرمينية، نقول ذلك ونحن لا نعرف أنه يوجد في اللغة كلمة جامعة مسيحية «بانيكريستيانزم» كما خلقت كلمة جامعة إسلامية «بانيسلامزم».
على أن عقلاء المصريين لا يرون لكلتيهما وجودا في العالم، ولكن السياسة تخلق ما تشاء، فليس لأوربا أن تتوجس خيفة من فكرة ساذجة كهذه، بعيدة عن أن تؤدي إلى اعتداء من جهة المصريين، ولا أن تسبب قلق المستعمرين من الأوربيين، بل يرى هؤلاء العقلاء أن الذي خلق هذا الخاطر الساذج هو مظاهر السياسة الأوربية في الشرق.
أما كون الجامعة الإسلامية موجودة وجودا حقيقيا، أو أنها مقصد من المقاصد التي يسعى المسلمون لتحقيقها، فهذا لا دليل عليه مطلقا، كما أنه لو حوول إيجادها لاستحال ذلك بالمرة على طلابه.
علمنا التاريخ وطبائع البشر أنه لا شيء يجمع بين الناس إلا المنافع، فإذا تناقصت المنافع بين قلبين استحال عليهما أن يجتمعا لمجرد قرابة في الجنسية، أو وحدة في الدين، وإن أبلغ مثال على ذلك هو انشقاق المسلمين على أنفسهم في خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مما هو مشهور ومأثور، إن أحسن ما قرأنا في الجامعة الإسلامية، هو ما ذكره الأستاذ براون في خطبته التي ألقاها في جامعة كيمبردج سنة 1903 وأبان فيها أن الجامعة الإسلامية هي خرافة ابتدعها دماغ مكاتب التيمس في فينا، قال الأستاذ براون:
إنه ليس من السهل تعريف معنى البانيسلامزم بعبارة تنطبق على المثل العربي المشهور «خير الكلام ما قل ودل» ومع الأسف إننى استشرت أحد أصدقائي المسلمين في هذا الموضوع، فعرفني معنى «بانيسلامزم» بلا تردد في بضع كلمات، وهي «أن البانيسلامزم هي خرافة خلقها دماغ مكاتب التيمس في فينا.
وإن تجسيم الأمر في نفس عميد الاحتلال في مصر إلى حد أنه قد جعله تعصبا للدين لا محل له بالمرة، إلا إذا كان الغرض منه بعث القلق إلى نفوس السياسيين من الأوربيين، حتى لقد جره ذلك الغرض إلى التعريض بأحكام الدين الإسلامي، وادعى أنها غير صالحة إلى أن تطبق في هذا الزمان.
قال ذلك بتصريحات كان من عادته أن يتوقاها؛ مراعاة لاحترام الدين الإسلامي، وتفاديا من جرح شعور المسلمين، نقول: على غير عادته؛ لأنه كثير الاحترام للدين الإسلامي، كثير الحيطة في التعبير عنه بشيء يتعلق به، وكل تصريحاته مستفيضة في هذا المعنى؛ فقد قال في خطبته في كلية غوردون في 4 يناير سنة 1899:
ولا يخفى عليكم أن جلالة الملكة ورعاياها المسيحيين من أشد الناس استمساكا بعروة دينهم، ولذلك فهم يعرفون وجوب احترام دين غيرهم، على أن حكم جلالتها يظلل من المسلمين عددا أكثر مما يظلل حكم أي ملك في الأرض، وهم مع ذلك في عيشة هنية، وسعادة تحت حكمها الكثير الخيرات، دينهم موقر، وعاداتهم الشرعية محترمة كل الاحترام ... إلخ.
نامعلوم صفحہ