وبعد فإلى أي حد يتفق أرسطو في رأيه في التدرج والارتقاء مع الآراء الحديثة في التطور؟ لقد ذهب سبنسر إلى أن التطور هو الانتقال من حالة لا محدودة، متفككة، متشابهة، إلى حالة محدودة متماسكة متميزة الأجناس، وهذا ما قاله أرسطو، ولو أنه عبر عنه بأسلوب غير هذا، فهو يسميه تحركا من الهيولى إلى الصورة، وهو يصف الصورة بأنها ما يحدد الشيء من صفات، فبعد أن كانت الهيولى مادة لا محدودة، جاءت الصور فطبعتها في أشياء محدودة، وهو يرى كذلك أنه كلما ارتقى الشيء كان أكثر تحددا؛ لأنه يكون أوفر حظا فيما يصيبه من الصورة، والهيولى قبل أن تشكلها الصور كانت متجانسة، فقد رأينا أنها في بدايتها كانت خلوا من الصفات، أي إنها كلها عنصر متجانس، وإن ما أدى بها إلى هذا التباين الذي نلاحظ في الأشياء إنما هو الصفات التي اكتسبتها الأشياء من صورها.
أما التماسك الذي أشار إليه سبنسر في صفات التطور فهو ما عبر عنه أرسطو بالعضوية
organization ؛ إذ قال إن صورة الشيء هي عضويته، وهو يذهب إلى ما ذهب إليه سبنسر من أن الكائن يكون أكثر رقيا كلما صعد في سلم العضوية، وكل نظرية في التطور إنما تقوم على هذه الفكرة الأساسية، فكرة النظام العضوي، فأرسطو في الواقع هو خالق الفكرة وواضع لفظها، ولم يزد سبنسر عليه شيئا إلا ما أورده من أمثلة يؤيد بها صحة النظرية، ساعده عليها تقدم العلم الحديث.
ولكن الفرق بين أرسطو ورجال النشوء الحديث هو أن أرسطو وقف عند تصوره أن التطور ليس إلا رقيا منطقيا، ولم يدرك أنه حقيقة واقعة تحدث على مر الزمن، فأرسطو ودارون سواء في معرفة الفرق بين النظام العضوي الراقي والسافل، ولكن أرسطو وقف عند هذا الحد ولم يعلم أن هذا الكائن السافل سينقلب مع كر الأعوام كائنا راقيا بالفعل.
ولا يقتصر الخلاف بين أرسطو والمحدثين على هذا الفرق، بل هما يختلفان فيما هو أهم من هذا، فأرسطو قد تغلغل في فلسفة التطور أكثر مما فعل العلم الحديث، بل إن شئت فقل إن العلم الحديث ليس لتطوره فلسفة على الإطلاق؛ لأننا حين نقول إن هذا الكائن أرقى من ذلك يجب أن نستند على أساس عقلي في التفرقة بين الكائنين من حيث الرقي والانحطاط، فعلى هذا العماد يتوقف ما إذا كان الكون يخبط في سيره خبط عشواء، أو هو كون يسير وفق نظام وخطة مدبرة نحو غرض معلوم، أما نظرية سبنسر فلا تتضمن معنى التقدم، بل هي تكاد تقف عند مجرد التقرير بأن كائنا يتغير فيصبح كائنا آخر، والتغير لا يلازمه التقدم حتما، فقد يتغير الشيء إلى شيء يساويه علوا أو دونه في المرتبة.
ولا يمكننا أن نفهم الكون إلا إذا أثبتنا أنه يتطور ولا يقتصر على التغير من حالة إلى حالة أخرى كائنة ما كانت، والتطور يقتضي أساسا عقليا تقوم عليه العقيدة بأن بعض الكائنات أرقى من بعض، فلماذا يكون الإنسان أعلى مرتبة من الحصان، أو الحصان أعلى من حيوان الإسفنج؟ إذا أجبت على هذا السؤال فقد حصلت على فلسفة التطور، أما إذا وجهت السؤال إلى رجل الشارع فسيجيبك على الفور بأن الإنسان أرقى من الحصان؛ لأنه لا يأكل الكلأ فحسب، بل هو كائن مفكر له حظوظ وافرة من العلم والدين والفن والأخلاق، ولكن سله لماذا تكون هذه الحالات أرقى من أكل الكلأ، فلن تظفر منه بجواب ... انتقل من رجل الشارع إلى الفيلسوف الحديث، إلى سبنسر، وسله يجبك بأن الإنسان أرقى من الحصان؛ لأنه أشد تركبا في نظامه العضوي، ولكن لم يكون هذا دليلا على الرقي؟ هنا يقف العلم صامتا لا يحير جوابا، لا بل هو يخرج من الصمت بما هو شر من الصمت فيقول: «ليس في حقيقة الأمر رقي وانحطاط، وإنما هي ألفاظ أطلقها الإنسان ليدل بها على المقارنة بين الكائنات من حيث تركيبها العضوي، هي طريقة بشرية للتفكير ليس غير، فنحن نقيس الرقي بمقياسنا، فما كان قريبا منا شبيها بنا كان في رأينا أعلى مرتبة مما هو بعيد عنا مباين لنا في كل نظامه وتركيبه، أما وجهة النظر المجرد فلا تفرق بين كائن وكائن.» ولو سلمنا مع العلم الحديث بهذا لانتهينا إلى نتيجته المنطقية، وهي أن الكون ليس له هدف يرمي إليه، وليس ثمت عقل يسير على مقتضاه، بل هو يسير كما شاءت له المصادفة، وإن كان هذا هكذا فلا فلسفة بل ولا أخلاقية؛ لأننا لو أنكرنا الرقي والانحطاط بين الكائنات فلا مفر لنا من إنكار الفرق بين الخير والشر، وحينئذ لأن تكون سفاكا أو قديسا سواء.
لنترك سبنسر إذن، ولنستدبر الزمن فنلقي على أرسطو هذا السؤال : لماذا يكون العلو في النظام العضوي معناه الرقي؟ إنه يجيب بأنه لغط في القول أن نردد هذه الألفاظ: انحطاط ورقي، أعلى وأسفل، ما لم يكن لدينا غرض ننسب إليه الأشياء فنحكم عليها بالنسبة إليه صعودا أو هبوطا؛ إذ لا معنى للتقدم إلا أن يكون تقدما نحو غاية معلومة، فلو سار جسم في خط مستقيم في فضاء لا نهائي، فمن الخطأ أن نسمي هذه الحركة تقدما؛ لأنه لا فرق بين أن يكون الجسم المتحرك عند هذه النقطة أو بعدها بفرسخ أو فرسخين؛ لأنه لن يكون في هذا الوضع الجديد أقرب إلى شيء منه وهو في مكانه الأول، أما إن كان ذلك الجسم لغايته نقطة معينة فعندئذ يصح وصفه بالتقدم أو التأخر؛ لأنه كلما سار شوطا كان أقرب إلى غرضه المقصود أو أبعد.
وبناء على ذلك يجب أن تكون فلسفة التطور غائية، تعترف بأن العالم يسير نحو غاية منشودة؛ لأنه لو لم يكن كذلك لما أمكننا أن نصفه بالبعد أو القرب من الغرض، وبعبارة أخرى لا نستطيع أن نحكم عليه بالرقي أو الانحطاط، فما هو هذا الغرض؟ يجيب أرسطو بأنه: تحقيق العقل، فقد كان الكائن الأول عقلا خالدا ولكنه لم يتمتع بالوجود الحقيقي الفعلي، فأخذ يمثل نفسه في النبات ثم في الحيوان، ثم حقق وجوده في الإنسان، وسيظل يرقى في الإنسان حتى يصل إلى وجود خالص من كل شائبة، وعندئذ يكون الكمال المنشود، ولكن كيف بالعالم إذا وصل إلى هذه المرتبة؟ أيصاب بالجمود فلا يسير؟ إنه لن يصل يوما إلى ذلك الكمال، وسيظل دوما يقصد إليه دون أن يبلغه.
وإذن فمقياس الرقي والانحطاط هو مقدار ما يتمتع به الكائن من عقل، ولا يجوز لمعترض أن يسأل: لماذا يكون العقل علامة على الرقي؛ لأن كلمة «لماذا» معناها أن العقل يريد سببا عقليا، ومن التناقض الظاهر أن يسأل العقل عن سبب معقوليته، فسؤالك لماذا كانت الحياة العقلية أرقى كسؤالك لماذا كان العقل عاقلا، وهو سؤال ظاهر السخافة.
وفي تعاليم أرسطو ما يشعر بمذهب الحلول ، وهو المذهب القائل بأن الله حال في كل شيء، وأن كل شيء مظهر له، فإن فلسفة أرسطو تقول: إن كل شيء في العالم يسعى لتحقيق العقل وله حظ منه، والعقل الكامل هو الله، وإن اختلفت الأشياء في مقدار حظها منه. (4) رأيه في الأخلاق
نامعلوم صفحہ