تناقض هذه النظرية نفسها بنفسها، وحين يقول بروتاجوراس «إن ما يبدو لأي شخص أنه الحق فهو حق بالنسبة له» يثبت بهذا القول نفسه فساد رأيه؛ لأنني إذا قلت إن نظرية بروتاجوراس تبدو لي أنها باطلة وجب أن يعترف معي بروتاجوراس نفسه أنها كذلك، وإذن فلا نظرية هناك يعترف بصحتها جميع الناس. (6)
القول بهذه النظرية لا يجعل فاصلا بين الحق والباطل، فكل شيء حق وباطل في آن واحد، وإذن فاللفظتان تعنيان معنى واحدا، أو لا تعنيان شيئا؛ وعلى ذلك فيكفي أن تقول إنني أدرك كذا أو كذا دون أن تضيف إليه صفة الحق؛ لأنها كلمة فارغة لا يقصد بها معنى. (7)
لا يخلو إدراك كائنا ما كان من عنصر خارج عن عمل الحواس، فإذا قلت مثلا «هذه الورقة بيضاء» فقد تظن أن هذا إدراك جاءك عن طريق الحواس وحدها، والواقع أن فيه جانبا كبيرا من عمل العقل، إن حاسة الإبصار قد نقلت إليك صورة معينة، فمن أدراك أنها ورقة وليست قطعة من الخشب أو النحاس؟ أليس هذا الحكم بأنها ورقة نتيجة لعملية عقلية سريعة قارنت بها هذا الجسم الذي تراه بمجموعات الأنواع التي في ذهنك، فلما رأيت فيه صفات الورق حكمت بأنها ورقة، ثم أجريت مقارنة أخرى من حيث اللون، فقست هذا اللون المعين الذي ينقله إليك البصر بمعلوماتك السابقة عن الألوان، وحكمت آخر الأمر أنها بيضاء، وإذن فيستحيل أن تحكم على الشيء المحس بنوعه إلا إذا كنت عالما بمواضع الشبه بينه وبين أفراد نوعه، وبمواضع الخلاف التي تميزه من أفراد الأنواع الأخرى التي حصلتها تجاربك الماضية، وهذه المقارنة السريعة التي لا بد منها قبل الحكم بأن ما ترى قطعة من الورق هي في الواقع عملية عقلية محضة، يستحيل أداؤها على الحواس؛ لأن أعضاء الحس تنقل الصورة الخارجية، كل عضو في دائرته المعينة، دون أن تشترك جميعا في بناء الصورة، فالعين تحمل الشكل، والأصابع تحمل الملمس، والأنف ينقل الرائحة وهكذا، فإذا وصلت هذه الجزئيات إلى الذهن تظل هكذا مفككة لا يتصل بعضها ببعض إلا إذا أدركها العقل فكون منها صورة تطابق صورة الشيء الخارجي.
وخلاصة القول: أن العلم لا يمكن أن تأتي به الحواس وحدها، وأن العقل هو الأداة التي نستعين بها في الوصول إلى المعرفة مهما كان نوعها، ولا بد من التفريق بين العلم الصحيح والرأي الشخصي.
وإلى هنا سار أفلاطون في نفس الطريق التي سلكها أستاذه سقراط، حيث انتهى إلى أن المدركات العقلية وحدها التي يعبر عنها بالتعاريف هي العلم، ولكنه لم يقف عند هذا الحد الذي وقف عنده سقراط، بل تابع السير حتى وصل إلى الحقيقة المطلقة بنظرية المثل التي ننتقل الآن إلى شرحها. (2) نظرية المثل
انتهى سقراط إلى أن العلم الصحيح هو الإدراكات الكلية التي يصل إليها العقل بعد استعراض الجزئيات وجمع الصفات الجوهرية المشتركة بينها، واستبعاد الصفات العرضية التي يتصف بها بعض الجزئيات دون بعض، وأضاف إلى ذلك أن التعريف هو في الواقع تعبير عن تلك الإدراكات الكلية، وهذه التعاريف هداية للإنسان في تفكيره وفي سلوكه، ترسم له الطريق واضحة مستقيمة، فتعريف الفضيلة - مثلا - لا يدع أمامنا مجالا للشك في قيم الأعمال؛ لأنه سيكون لنا بمثابة مقياس نقيس به العمل، لنرى هل فيه ماهية الفضيلة كما نفهم من تعريفها ، فيكون العمل خيرا، أو ليست فيه فيكون شرا، ولكن سقراط حين قرر أن هذه الإدراكات الكلية التي يصل إليها الإنسان بعقله هي المعرفة وقف عند هذا الحد، ولم يعتبر أن لها وجودا معينا في الخارج، فأتى أفلاطون وخطا بعد أستاذه خطوة انتهت به إلى هذه النظرية التي هي من فلسفته كالأساس من البناء، فقد سلم مع سقراط بصحة ما وصل إليه من أن العلم لا يقوم على المدركات الحسية التي توصلها الحواس إلى الذهن، بل هو عبارة عن المدركات العقلية التي يستخلصها العقل مما يصادف في الحياة من جزئيات، ولكنه لم يوافق سقراط على أن هذه الصور الذهنية ليس لها وجود يطابقها في العالم الخارجي، بل إن لها حقيقة خارجية مستقلة عن الإنسان، فالإدراكات الكلية التي يصل إليها العقل هي أسماء لها مسميات في الواقع، وإلا لكانت وهما باطلا من خلق الخيال، أليست الفكرة الحقيقية هي ما كانت منطبقة على الواقع؟ فإن رأيت الشمس طالعة وكانت طالعة حقا كانت فكرتي صحيحة، وإلا فهي فكرة باطلة، وبناء على هذا تكون الحقيقة عبارة عن مطابقة الفكرة الذهنية للشيء الخارجي، والفكرة الباطلة هي التي لا تطابق شيئا موجودا بالفعل، ولما كان العلم هو ما تعلق بالحقيقة وحدها لزم أن يكون لكل ما أعلمه صور فعلية في الخارج، ولكن العلم كما رأينا عند سقراط ووافقه أفلاطون هو الإدراكات الكلية العقلية التي تنصب على الأنواع، وليس الإدراكات الحسية الجزئية التي تقع على الأفراد، وإذن يتحتم أن تكون لتلك الإدراكات الكلية مسميات حقيقية واقعية خارجية تطابقها تمام المطابقة، وإنه لتناقض أن تذهب إلى أن الإدراك العقلي هو وحده العلم الصحيح، ثم تسلم من جهة أخرى أن ليس له شيء في الخارج ينطبق عليه.
وما دامت الإدراكات العقلية الكلية هي وحدها العلم الصحيح، إذن فكل ما نحصله بواسطة الحواس باطل أو شبه باطل، فنحن ندرك عددا عظيما من الجياد بواسطة الحواس، ولكن العقل يقدم لنا صورة واحدة للحصان هي الإدراك الكلي للنوع بصفة عامة، فإذا كانت هذه الصورة الواحدة التي يكونها العقل هي وحدها الحق، كانت كل الجياد التي رأيناها في الحياة العملية ظلا للحقيقة لا الحقيقة نفسها.
وليس الأمر قاصرا على الأشياء المجسدة، بل يتناول كل ضروب المعرفة، خذ الجمال مثلا، فإن سألتك عن الجمال ما هو، فقد تشير إلى وردة قائلا: إن في هذه لجمالا، كما تقول ذلك في حسناء، وكما تقوله في المنظر الطبيعي الجميل، وفي الليلة المقمرة، ولكن هذه كلها أشياء جميلة وليست هي الجمال في ذاته، وأنا أسأل عن شيء واحد هو الجمال، لا أشياء كثيرة يتمثل فيها الجمال، فإن كانت الوردة مثلا هي الجمال استحال أن تقول ذلك في أي شيء آخر؛ لأن الجمال شيء واحد، وآية ذلك أن له في اللغة لفظا واحدا، هو شيء غير هذه الأشياء التي أشرت إليها، فماذا عساه أن يكون؟ قد تعترض بأن ليس ثمت جمال واحد، وأنه متعدد يظهر في الأشياء ولا يكون شيئا بذاته، ولكن ما الذي دعاك إلى القول بأن الوردة والمرأة والمنظر والليلة المقمرة تشترك جميعا في صفة واحدة هي الجمال؟ أليس ذلك دليلا على أنك وجدت وجها للشبه بينها؟ ومن أدراك بهذا الشبه؟ إنها ليست العين؛ لأن البصر لا يدل على أن الوردة تشبه في منظرها الليلة المقمرة، هذا فضلا عن أن التشابه بين الأشياء لا يعلم إلا بالمقارنة، والمقارنة لا تكون بالحواس، إذن لا بد أن يكون في ذهنك فكرة عن الجمال تقيس بها الأشياء الخارجية، فتعلم مقدار ما لها من جمال، وبهذه الفكرة الذهنية استطعت أن ترى وجه الشبه بين الوردة والليلة المقمرة؛ لأن كلا منهما فيه شبه بالصورة التي لديك.
هذه الفكرة عن الجمال هي فكرة عن شيء واحد، فإما أن يكون لها وجود في الخارج تطابقه أو لا يكون، فإن لم يكن فهي إذن من انتحال الخيال وتلفيق الذهن؛ وبناء على ذلك تكون أحكامك كلها عن جمال الأشياء الخارجية مقيسة بمقياس شخصي محض، ونكون قد عدنا إلى الوراء حيث فلسفة السوفسطائيين بأن الإنسان هو مقياس كل شيء، فما يراه جميلا فهو جميل، وما يراه قبيحا فهو قبيح، فلم يبق إلا أن نسلم بأن فكرة الجمال الموجودة في العقل إنما تطابق شيئا واحدا في الخارج تمام المطابقة هو الجمال، ومعنى ذلك أن ثمت في العالم الخارجي جمالا في ذاته مستقلا عن عقل الإنسان.
وما قيل عن الجمال يمكن أن يقال عن العدل والخير والبياض والسواد وسائر الصفات، فثمت في الخارج عدل واحد ينطبق على فكرة العدل الموجودة في العقل، وهو متميز عن الأعمال التي نصفها بالعدل، كذلك هناك أشياء كثيرة بيضاء، ولكن البياض في ذاته شيء واحد موجود فعلا وله صورة في الذهن.
نامعلوم صفحہ