وتعاليمهم هذه هي السبب في أن ليس لهم تعاليم فلسفية إيجابية، فقد قنعوا بأن ليس هناك حقيقة، وإن وجدت فليس من سبيل إلى اكتشافها؛ ولهذا خصصوا أنفسهم للبلاغة وللسياسة، وقالوا إن لم تكن هناك حقيقة تعرف وتعلم، فأمامنا باب الاستمالة والتأثير في الناس، وإن لم يكن حق وباطل في ذاتهما، فهناك طرق للإقناع، وهذا هو الطريق الذي سلكوه، طريق البلاغة.
ومهما قال الناقدون في فلسفة السوفسطائيين، فلا سبيل إلى إنكار هذه الحقيقة، وهي أن عصرهم كان عصر نهضة فكرية كهذه النهضات التي تجيء في التاريخ على فترات متباعدة، والتي يظهر أنها تتبع عهودا تنشط فيها الفلسفة والعلوم، فقد جاء السوفسطائيون بعد تلك الفترة التي امتدت من طاليس إلى أنكسمندر، والتي امتلأت بأعلام الرجال الذين أنتجوا في الفلسفة والعلم إنتاجا خصبا غزيرا، فأخذت هذه الأكداس من المعرفة تتقطر على طول الزمن إلى الدهماء قطرة قطرة، إذ لا سبيل إلى علم الدهماء لها في حينها ومتابعتها خطوة خطوة، فاستنار الشعب واتسع أفقه العقلي بعض الشيء، وبدأ ينظر إلى آرائه القديمة، وعقائده البالية نظرة الناقد الساخط، ولم يتردد في هجرها ونبذها في ضوء فكره الجديد، هكذا تتابع حلقات الفكر في التاريخ فيكون بناء في أوله وهداما في آخره، يكون أفكارا إيجابية عند صدوره من أصحابه، فإذا وجد سبيله إلى أذهان العامة كان قوة سلبية تظهر في صورة الشك والنقد والتحطيم، وهذا علة ما تنطبع به النهضات الفكرية في العصور من طوابع الشك والإنكار التي تتناول بمعاولها الحكومة والتقاليد والعادات، وإذا ما انقضت هذه العمد الثلاثة فقد تقوض المجتمع من أساسه، وانمحت روح الجماعة وظهرت روح الفرد بكل ما تجره الأنانية وراءها من ذيول.
ولقد شهدت إنجلترا وفرنسا في أوائل القرن الثامن عشر نهضة فكرية كالتي بينا، فساد الشك وحاول الفكر أن يهدم كل قديم، لا ينجو منه نظام من النظم، فتناول الأسرة والدولة والقوانين، وقد جاءت تلك النهضة أيضا عقب عصر إيجابي بنائي، وها نحن أولاء اليوم نشاهد عهدا جديدا للشك، بعد أن سبقه القرن التاسع عشر بطائفة كبيرة من الإنتاج العلمي، تسللت إلى العقول تدريجا، فاتسع النطاق العقلي، ولم يعد يرضي الناس ثوب الفكر القديم، وهم يحاولون اليوم أن يخلعوه ليستبدلوا به جديدا، ومما هو جدير بالذكر أن الفلسفة السائدة اليوم - وهي الفلسفة العملية - البراجماتزم
،
2
التي لا تريد أن تعترف بحقيقة في ذاتها مستقلة عن الإنسان، بل الحقيقة عندها هي ما يكون نافعا في الحياة العملية، قريبة الشبه جدا بتعاليم السوفسطائيين، ولسنا نخطئ إذا قلنا إنها سوفسطائية العصر الحديث، تحاول أن تتخذ من الإنسان مقياسا لكل شيء، وكل الفرق بينها وبين سوفسطائية بروتاجوراس هو فرق في معنى «الإنسان» فكان بروتاجوراس يعني به الفرد، ومذهب البراجماتزم اليوم يريد به الإنسانية كلها، ولما كان ما ينفع الإنسان اليوم قد يضره غدا، وما ينفع هذه الأمة قد يضر أمة اخرى، إذن فليس ثمت حقيقة ثابتة خالدة.
ولا ريب في أن موضع الخطأ عند بروتاجوراس قديما، وفي مذهب البراجماتزم حديثا، هو الاعتماد على حواس الإنسان (مع أن حواس الشخص خاصة به)، وتجاهل الجانب العقلي منه، (مع أنه العنصر الذي يشترك فيه أفراد البشر جميعا).
فلئن كنا ندين للسوفسطائيين حقا بالإكبار من شخصية الفرد، والمطالبة ألا تفرض عليه الآراء والعقائد فرضا، بل يقنع بها إقناعا، فلا نذهب معهم إلى حد إهمال الحقيقة الخارجية مستقلة عن الإنسان، ولئن كنا نذهب معهم فيما ذهبوا إليه من أن لكل إنسان الحرية في الرأي واعتقاد ما يرى، فنحن نضيف إلى ذلك شرطا وهو: أنه لا يجوز لفرد أن يرى رأيا إلا إذا قام عليه الدليل العقلي دون إحساسه وشعوره ، وإن كنا نوافقهم في أن الأخلاق تختلف باختلاف الشعوب، إلا أننا لا نخلص من هذه المقدمة إلى النتيجة التي خلصوا إليها من أنه ليس هناك معيار خلقي حق في ذاته؛ لأن اختلاف الرأي في الأخلاق كاختلاف الرأي في أي ظاهرة أخرى لا ينهض دليلا على انعدام الحقيقة في ذاتها، فإذا اختلفت الأقوال في شكل الأرض، هل هي مسطحة أم كرية، فليس معنى ذلك أن ليس للأرض شكل ما، وهكذا الشأن في الأخلاق، فإن أجازت أمة البغاء وحرمته أخرى، وإن أجاز المصريون القدماء زواج الأخت وحرمه غيرهم، فليس ذلك دليلا على أن الإنسان مقياس الأخلاق، وأن ليس هناك حقيقة خلقية ثابتة في ذاتها.
الفصل التاسع
سقراط
نامعلوم صفحہ